recent
أهم الموضوعات

كانط زعيم الفلسفة النقدية

يقول الفيلسوف الالماني الشهير شوبنهاور في أحد كتبه "بدأ يرسخ في الاذهان بصفة عامة أن الفلسفة الحقة، أي الفلسفة الجادة ظلت حيث تركها كانط، وأنني مهما كان من الأمر لابد من أن أنكر وجود أي تقدم في هذه الفلسفة خلال الحقبة التي تفصل بين كانط وبيني".

يُعبّر شوبنهاور عن رأي نقدي في تطور الفلسفة بعد كانط، معتبراً أن الفلسفة الحقيقية أو "الفلسفة الجادة" قد توقفت عند كانط، وأنه لم يكن هناك أي تقدم حقيقي أو تطور جوهري في الفلسفة بعده حتى زمنه.

يرى أن الفلسفة التي ظهرت بين كانط ووقته كانت على الأغلب محاولات غير مثمرة أو مجرد تكرار للأفكار السابقة، دون أن تضيف شيئاً جوهرياً إلى الفلسفة كما فعل كانط.

لقد كان شوبنهاور والذي هو أحد المؤسسين الكبار لفلسفة القرن العشرين، يتحدث بالضبط عن "الجانب النقدي في مايخص فلسفة كانط"

الجانب النقدي في فلسفة كانط هو أهم جوانب فلسفته، وهو موضوع مقالنا في هذا اليوم، وهو الذي دفع بشكل مستمر شغف الباحثين في مجال الفلسفة بالأهتمام بفلسفة إيمانويل كانط.

فقد اعتبروا أن هذا الجانب (النقدي) هو النقطة المحورية التي أحدثت تحولًا كبيرًا في تاريخ الفلسفة. ومن هنا، قال الكثيرون إن الفلسفة الحقيقية، إذا كانت قد بدأت مع أفلاطون، فقد اختُتمت مع كانط.

كانط والفلسفة النقدية

ربما يتساءل البعض عن السبب الذي منح هذا الجانب من فلسفة كانط هذه الأهمية، والسبب الذي يجعل فلسفته تحظى بكل هذا الاهتمام والاحترام.

يكمن الجواب في أن كانط قدّم في "ثلاثيته النقدية" مفاتيح أساسية للإجابة على الأسئلة الكبرى التي طالما شغلت الفلاسفة، ولم تنقطع الفلسفة عن طرحها.

ولرب سائل يسأل: لماذا أرتبط اسم كانط بالفلسفة النقدية، بل ويعتبر مؤسسها؟
أرتبط اسم الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724-1804) ارتباطًا وثيقًا بما يُسمى "الفلسفة النقدية"، نظرًا لأنه خصص معظم كتاباته الفلسفية لنقد العقل وتحديد حدوده، وإظهار شروط المعرفة، وانتقاد الميتافيزيقا.

وليس هذا فقط، ثم أن كتبه الثلاث

  • نقد العقل النظري
  • نقد العقل العملي
  • نقد ملكة الحكم
  • بالأضافة كتاب أسس ميتافيزيقيا الاخلاق
تشكل هذه الكتب بمجموعها نسق نقدي متكامل، لذلك أستحق إيمانويل كانط بحق لقب فيلسوف النقد.

في هذه الكتب وضح إيمانويل كانط تصوره الخاص لنظرية المعرفة، حيث بدأ بتوضيح شروط المعرفة اليقينية والتي حددها في الحدوس القبلية للزمان والمكان ثم الحدوس الحسية والمقولات العقلية

إيمانويل كانط  يعتبر مؤسس الفلسفة النقدية لأن فلسفته كانت موجهة بشكل أساسي لتحديد حدود المعرفة البشرية، والنقد كان الأداة الرئيسية التي استخدمها لتحقيق هذا الهدف.

ففي تلك الحقبة، كان الفلاسفة مثل ديكارت وسبينوزا ولايبنيز قد سعى كل منهم لإيجاد أسس يقينية للمعرفة والعقل، سواء عبر التفكير العقلاني الخالص أو عبر الفهم الميتافيزيقي للوجود. لكن كانط كان مختلفًا في منهجه، إذ أراد أن يفحص ويحدد حدود العقل نفسه بدلاً من محاولة الوصول إلى معرفة مطلقة أو شاملة.

الربط بين كانط والفلسفة النقدية يعود إلى أنه قام بنقد العقل ذاته، حيث طور نقدًا عميقًا للقدرة البشرية على معرفة الحقيقة. هذا النقد لا يتوجه نحو أفكار أو فلسفات بعينها فحسب، بل يتوجه إلى الآليات التي يعمل بها العقل البشري، ويطرح أسئلة أساسية حول حدود ما يمكن للعقل البشري أن يعرفه ويُدركه. يبرز هذا النقد في أعماله الأربعة الرئيسية:

  1. نقد العقل النظري (Critique of Pure Reason):
    في هذا الكتاب، كانط يقدم تصورًا جديدًا عن المعرفة ويُحدد الحدود التي يمكن للعقل البشري أن يعرف من خلالها. لقد فحص كيفية تشكيل الخبرة والمعرفة عبر الحدوس القبلية (الزمان والمكان) والحدوس الحسية والمقولات العقلية التي تتيح لنا التفاعل مع هذه الخبرات.

  2. نقد العقل العملي (Critique of Practical Reason):
    تناول فيه كانط المعرفة الأخلاقية وكيفية تحديد الواجبات الأخلاقية التي تعتمد على العقل الحر، وليس على التجربة أو على معايير خارجية. هنا، قدّم فكرته عن الحرية الأخلاقية باعتبارها الأساس للواجب الأخلاقي.

  3. نقد ملكة الحكم (Critique of Judgment):
    خصصه لدراسة العلاقة بين العقل والذوق الجمالي، وكذلك لإمكانية التوافق بين ما هو عقلي وما هو طبيعي. كما يطرح فيه مسائل تتعلق بـ الطبيعة و الفن وكيفية الحكم عليها باستخدام الملكة الإنسانية المسمّاة بـ "ملكة الحكم".

  4. أسس ميتافيزيقيا الأخلاق (Groundwork of the Metaphysics of Morals):
    في هذا الكتاب، وضع كانط الأسس النظرية لفهم الأخلاق من خلال مفهوم الواجب، وكيفية إمكانية تقديم الأخلاق باعتبارها قاعدة كلية وغير مشروطة، مستندًا إلى العقل وحده دون تدخل التجربة.

كانت فلسفة كانط "نقدية" بمعنى أنها كانت تهدف إلى مراجعة عقل الإنسان لمعرفة ما يمكن أن يكون قابلًا للمعرفة في عالمنا، ما هي حدود هذه المعرفة، وما الذي يجعلها ممكنة من الأصل. لذلك، لم يكن النقد عند كانط مجرّد إدانة أو هجوم على أفكار سابقة، بل كان أداة لفهم أعمق للمقدرة البشرية على الفهم والإدراك.

على سبيل المثال، نقد العقل النظري يقدم حلاً وسطًا بين الفكر العقلاني (الذي يرى أن العقل يمكن أن يعرف كل شيء) والفكر التجريبي (الذي يقول إن كل شيء يجب أن يُستمد من التجربة). كانط يقر بأن العقل البشري قادر على إدراك الحقائق الحسية، لكن لا يمكنه الوصول إلى حقائق ما وراء التجربة (الميتافيزيقية) إلا في حدود معينة.

بذلك، تُمثل الفلسفة النقدية عند كانط محاولته التوفيق بين العقلانية والتجريبية وتوضيح دور العقل البشري في تشكيل المعرفة، وعليه تُعتبر فلسفته الفلسفة النقدية المبدعة التي لامست العديد من المجالات مثل الميتافيزيقا، الأخلاق، الجماليات، والمنهج العلمي.

شروط المعرفة اليقينية عند كانط:

كانط بدأ بتوضيح شروط المعرفة اليقينية من خلال نقده للمنهج الفلسفي التقليدي الذي كان سائدًا في عصره. قبل كانط، كانت الفلسفات العقلانية (مثل فلسفة ديكارت وسبينوزا) تعتمد على فكرة أن العقل البشري يمكنه الوصول إلى الحقيقة المطلقة من خلال التفكير المجرد. في المقابل، كان الفلاسفة التجريبيون (مثل لوك وهوبز) يؤمنون أن المعرفة تأتي فقط من التجربة الحسية.

لكن كانط رفض هذه الثنائية البسيطة وقال إنه يجب فهم كيفية تفاعل العقل مع العالم الخارجي لتكوين المعرفة.

1. الحدوس القبلية (الزمان والمكان):

كانط يرى أن الزمان والمكان ليسا خصائص موجودة في الأشياء ذاتها (كما كان يعتقد الفلاسفة قبل كانط)، بل هما شروط ضرورية ومبدئية للخبرة البشرية. بمعنى آخر، الزمان والمكان هما إطار قبلي (قبل التجربة) من خلاله يتم تنظيم كل المعرفة الحسية.

  • الزمان: هو الأفق الذي يتدفق فيه كل الأحداث.
  • المكان: هو الفضاء الذي توجد فيه الأشياء.

بعبارة أخرى، من دون هذه الحدوس القبلية للزمان والمكان، لا يمكن للإنسان أن يدرك أي شيء أو تكون له تجربة حقيقية.

2. الحدوس الحسية:

بالإضافة إلى الزمان والمكان، قال كانط إن التجربة الحسية تلعب دورًا مهمًا في تكوين المعرفة. لكن المعرفة الحسية وحدها لا تكفي للحصول على معرفة يقينية. الحواس تقدم لنا معطيات حسية عن العالم (مثل اللون والشكل والملمس)، لكن هذه المعطيات لا تكون معرفة فعلية إلا إذا تم تنظيمها ودمجها داخل إطار الزمان والمكان الذي يوفره العقل.

3. المقولات العقلية:

في مرحلة تالية، كانط قدم المقولات العقلية (Categories of the Understanding) كجزء من نظرية المعرفة. هذه المقولات هي أفكار أو مفاهيم فطرية موجودة في العقل، وهي الأساس الذي من خلاله يتم تفسير وتنظيم المعلومات الحسية التي يتم تلقيها.

من أهم هذه المقولات:
  • السببية (Causality): مفهوم أن كل حدث يجب أن يكون له سبب.
  • الوحدة (Unity): فكرة أن الأشياء يمكن أن تُجمع ضمن مفهوم واحد.
  • الوجود (Existence): الاعتراف بأن الأشياء موجودة في الزمان والمكان.
هذه المقولات العقلية ليست مستمدة من التجربة، بل هي شروط عقلية مسبقة تُمكّننا من تنظيم تجربتنا وفهم العالم بشكل منطقي ومترابط. بدون هذه المقولات، لا يمكن للإنسان أن يكوّن أي فكرة منظمة أو متماسكة عن الواقع.

النتيجة: المعرفة الفطرية والتجريبية معًا

من خلال هذه العناصر الثلاثة (الحدوس القبلية للزمان والمكان، الحدوس الحسية، والمقولات العقلية)، يوضح كانط أن المعرفة البشرية هي نتاج تفاعل بين العقل والتجربة. وهذا يُعرف بمفهومه الشهير عن "التوليف" (Synthesis): حيث أن العقل لا يتلقى المعرفة بشكل سلبي من العالم الخارجي، بل هو يساهم بشكل فعال في تشكيل هذه المعرفة عبر آليات عقلية وفطرية.

إذن، على عكس الفلسفات السابقة التي كانت تعتمد إما على العقل أو على التجربة الحسية وحدهما، كانط يرى أن المعرفة ليست مجرد انعكاس لما هو موجود في الخارج، بل هي عملية نشطة يتم فيها تفاعل العالم الخارجي مع هيكل عقلاني داخلي.

المعرفة اليقينية عند كانط:

المعرفة اليقينية، إذن، عند كانط، هي المعرفة التي تنشأ عندما تتفاعل الحدوس الحسية مع المقولات العقلية، وكل هذا يتم في إطار الزمان والمكان.

هذه المعرفة تكون محدودة في نطاق العالم الظاهري الذي يمكن للعقل أن يختبره. أما عن العالم "الشيء في ذاته" (Ding an sich)، أي الواقع كما هو بدون تدخل العقل، فكانط يعتبر أنه لا يمكننا الوصول إلى معرفة يقينية عنه، لأنه خارج نطاق قدرتنا المعرفية.

google-playkhamsatmostaqltradent