إيمانويل كانط هو أحد أبرز الفلاسفة الذين ساهموا بشكل كبير في نقل أوروبا من حال الظلمات إلى النور، وكان أبرزهم وأكثرهم تأثيرًا.
قامت حركة التنوير على أيدي فلاسفة قادوا أكبر الثورات في التاريخ الفكري الإنساني ضد كل مظاهر الاستبداد، سواء كان دينيًا أو سياسيًا. وكان إيمانويل كانط قائد هذه الثورة الفكرية الأول بلا منازع.
لهذا، يُعتبر إيمانويل كانط الزعيم والمؤسس للعقل الأوروبي الحديث، والزعيم الأول لحركة التنوير التي أسهمت في استعادة مكانة العقل وجعلته المعيار الأول لإصدار الأحكام على القضايا والأمور. كما ساهمت حركة التنوير في تحرير العقل من القيود والأغلال التي سيطرت عليه في العصور السابقة .
فيلسوف السلام العالمي
في كتابه "نحو السلام الدائم"، يُظهر الفيلسوف إيمانويل كانط اهتمامًا كبيرًا بفكرة إنسانية - عالمية، حيث يهدف إلى إقامة سلام دائم. يؤكد كانط أن الخلاص للجنس البشري يتحقق من خلال السلام الأبدي، الذي يُعد الكمال الأخلاقي الأقصى للإنسانية.
قبل كانط، كانت هناك نظرتان للسلام. النظرة الأولى هي المثالية، ويمثلها أفلاطون، والتي ترى أن سعادة البشر مؤجلة إلى ما وراء العوالم. لكن كانط كان أكثر واقعية وجرأة، حيث اعتقد أن السعادة يمكن تحقيقها في العالم الواقعي ولم يعمل على تأجيلها مثل المثالية إلى ما وراء العوالم، ورأى أن السعادة لا يمكن أن تتحقق إلا في إطار السلام الدائم.
من جهة أخرى، كانت هناك النظرة التشاؤمية، التي يمثلها بعض الفلاسفة أمثال لايبنتز، حيث أكد لايبنتز أن السلام الدائم ليس سوى تصنُّع ولهو غير مجدٍ لحشد من السذّج. أما كانط، فكان يتجاوز هذه السخرية والتشاؤمية.
كان كانط إنسانًا مفعمًا بالإنسانية، يثق بشكل مطلق في الإنسان ويعول على البعد الأخلاقي والعقلي لديه كضمانة للسلام.
اعتبر إيمانويل كانط أن السلام الدائم ليس مجرد مسألة ترتيبات سياسية أو قوانين دولية، بل هو تحدٍ أخلاقي أساسي يعتمد على التربية الأخلاقية للفرد والمجتمع. في كتابه "مشروع للسلام الدائم"، يرى كانط أن السلام لن يتحقق إلا إذا اتبع الأفراد والدول قواعد أخلاقية قائمة على الإرادة الخيّرة والاحترام المتبادل. كما شدد على دور التعليم والتنشئة الأخلاقية في تعزيز القيم الإنسانية التي تجعل من السلام خيارًا طبيعيًا ومستدامًا.
يعتقد كانط أيضًا أن العقلانية تلعب دورًا مهمًا في تحقيق السلام، حيث يجب أن يتخذ الأفراد والدول قراراتهم بناءً على مبادئ عقلانية تخدم المصلحة العامة، وليس المصلحة الشخصية فقط.
في كتابه "مشروع السلام الدائم"، يعتمد إيمانويل كانط على استراتيجية تقوم على "العقلانية الكونية"، وهو مفهوم يشير إلى أن السلام الدائم لا يمكن تحقيقه إلا إذا اتُّبعت مبادئ عقلية عالمية غير متحيزة، تتجاوز المصالح الفردية والاعتبارات المحلية أو القومية. يؤكد كانط أن أي محاولة لتحقيق السلام يجب أن تتخطى الانتماءات القومية والسياسية والدينية، التي غالبًا ما تؤدي إلى النزاعات.
من وجهة نظره، يحتاج المجتمع الدولي إلى نظام قانوني عالمي يحترم حقوق جميع الشعوب بشكل موحد وعادل، بحيث لا تتأثر السياسات بعوامل عارضة ومتغيرة، كتحالفات سياسية أو اختلافات ثقافية.
صاغ إيمانويل كانط كتابه "نحو السلام الدائم" عام 1795 بطريقة تشبه المعاهدات الدبلوماسية، حيث عرض فيه رؤيته بشكل منهجي ودقيق، يتألف الكتاب من الأقسام التالية:
- أولًا:- المواد التمهيدية (تصوغ الشروط السلبية للسلام): تتكون من عدة مواد تقترح بعض القواعد الأولية التي يجب مراعاتها لتحقيق السلام الدائم، مثل منع استخدام الخداع في السياسة، وحل الجيوش الدائمة التي تُعد سببًا للحروب. تتضمن هذه المواد ستة شروط.
- ثانيًا:- المواد النهائية (تصوغ الشروط الإيجابية للسلام): تمثل القواعد الأساسية التي يجب أن تتبعها الدول لتحقيق السلام، وتشمل الدعوة إلى إنشاء جمهوريات حقيقية بدلاً من أنظمة استبدادية، وتنظيم العلاقات الدولية على أسس قانونية تمنع أسباب النزاعات، تتكون هذه المواد من ثلاث شروط.
- ثالثًا:- الملحق الأول: في الملحق الأول من كتاب "نحو السلام الدائم"، يبحث كانط في إمكانية تحقيق السلام الدائم من خلال النظر في الطبيعة من زاوية فيزيائية ومادية، ويطرح مفهوم "ضمانات الطبيعة للسلام". يرى كانط أن الطبيعة نفسها، بما فيها من قوانين وسنن، تساهم بشكل غير مباشر في تعزيز السلام بين البشر، حتى لو كانت هذه العملية غير واعية أو غير مقصودة من قبل الأفراد أو الدول.
1. التوزيع الجغرافي: يجادل كانط بأن توزيع الموارد واختلاف الظروف المناخية والجغرافية بين البلدان يدفع الدول إلى التعاون والتبادل فيما بينها لتحقيق الاكتفاء المتبادل، مما يخلق شبكة مصالح اقتصادية مشتركة تجعل الحروب أقل جاذبية.
2. التنافس والأنانية الطبيعية: يرى كانط أن الأنانية والمصلحة الذاتية في طبيعة البشر قد تكون دافعًا لتحقيق السلام، حيث تسعى الدول إلى تجنب الحروب حفاظًا على مصالحها الاقتصادية والسياسية، مما يجعل العلاقات السلمية أكثر فائدة لها.
3. الحركة التاريخية نحو تنظيم دولي: يؤكد كانط أن الطبيعة البشرية تميل بمرور الوقت إلى إنشاء تنظيمات وقوانين مشتركة لمنع الصراعات، ويعتبر ذلك طريق الإنسانية نحو تحقيق نظام قانوني دولي يسهم في السلام الدائم.
بهذا، يرى كانط أن الطبيعة، رغم أنها ليست عقلانية، تلعب دورًا غير مباشر في تشكيل ظروف تجعل من تحقيق السلام مشروعًا عقلانيًا وممكنًا للبشر.
- رابعًا:- الملحق الثاني: في الملحق الثاني من كتاب "نحو السلام الدائم"، يدعو إيمانويل كانط إلى ضرورة إشراك الفلاسفة في عملية تنوير الدولة وتقديم المشورة للحكام في الشؤون السياسية. يرى كانط أن الفلاسفة، بفضل نظرتهم العقلانية والمبدئية، يمكنهم تقديم إرشادات تتجاوز المصالح الذاتية والسياسات قصيرة الأمد، مما يعزز العدالة والسلام في المجتمع.
ومع ذلك، يشدد كانط على أن دور الفلاسفة يجب أن يقتصر على التوجيه والتنوير، وليس الحكم المباشر، لأن الحكم يتطلب التعامل مع متغيرات وقيود عملية قد لا تتوافق مع المبادئ النظرية البحتة. لكن بوجود الفلاسفة كمستشارين، يمكن للحكام تبني سياسات تتسم بالعدالة والتعقل، مما يسهم في تحقيق السلام الدائم.
1. السياسة الحقيقية لا تتناقض مع الأخلاق: يرى كانط أن السياسة لا يجب أن تنفصل عن الأخلاق، بل يجب أن تكمّلها وتعمل وفقًا لمبادئها. إذا كانت السياسات تعتمد على المبادئ الأخلاقية، فستكون أكثر استدامة وعدلاً، لأن السياسة التي تسعى للسلام الدائم لا بد أن ترتكز على الحق والعدالة.
2. الغاية لا تبرر الوسيلة: ينتقد كانط الفكرة القائلة بأن الوسائل غير الأخلاقية مقبولة إذا أدت إلى نتائج سياسية مرغوبة. بدلاً من ذلك، يصر على أن الوسائل السياسية يجب أن تكون أخلاقية، وأن الغايات السياسية لا تبرر الانتهاكات الأخلاقية.
3. ضرورة تأسيس سياسات عقلانية وعادلة: يعتبر كانط أن السياسة التي تعتمد على المصالح الآنية أو التحالفات المتقلبة تفتقر إلى البعد الأخلاقي. لذلك، يشدد على ضرورة تأسيس نظام سياسي عقلاني وعادل، يقوم على التزامات متبادلة بين الدول، ويحترم حقوق الأفراد، ويسعى لتحقيق السلام بوسائل مستقيمة.
السياسة والأخلاق لتحقيق السلام الدائم
بالنسبة لكانط، فإن السبيل إلى السلام الدائم لا يمر عبر المناورات السياسية، بل عبر الالتزام بمبادئ أخلاقية ثابتة. ويتطلب ذلك التوافق بين الأخلاق والسياسة في القوانين والمعاهدات الدولية، بحيث تعمل الدول على تحقيق أهداف مشتركة تحترم الإنسانية، وتبتعد عن الاستغلال والخداع.
بهذه الطريقة، يقدم كانط رؤية مثالية يرى فيها أن السياسة لا تكتمل إلا بالتزامها بأخلاقية ثابتة، تجعل من السلم والاستقرار هدفين أساسيين يرتكزان على مبادئ الحق والعدالة.
- خامسًا:- العلاقة بين الاخلاق والسياسة: ناقش كانط العلاقة بين الأخلاق والسياسة في سياق مشروعه للسلام الدائم، واعتبر أن هناك تداخلاً ضروريًا بين المجالين، حيث ينبغي أن تكون السياسة قائمة على المبادئ الأخلاقية لتجنب الحروب والصراعات غير المبررة. يرى كانط أن السياسة، رغم أنها تتعامل مع الواقع العملي والتحديات اليومية، يجب أن تخضع للأخلاق وتلتزم بمبادئ الحق والعدالة، حيث لا يمكن تبرير الوسائل غير الأخلاقية بحجة تحقيق غايات سياسية معينة.
1. السياسة الحقيقية لا تتناقض مع الأخلاق: يرى كانط أن السياسة لا يجب أن تنفصل عن الأخلاق، بل يجب أن تكمّلها وتعمل وفقًا لمبادئها. إذا كانت السياسات تعتمد على المبادئ الأخلاقية، فستكون أكثر استدامة وعدلاً، لأن السياسة التي تسعى للسلام الدائم لا بد أن ترتكز على الحق والعدالة.
2. الغاية لا تبرر الوسيلة: ينتقد كانط الفكرة القائلة بأن الوسائل غير الأخلاقية مقبولة إذا أدت إلى نتائج سياسية مرغوبة. بدلاً من ذلك، يصر على أن الوسائل السياسية يجب أن تكون أخلاقية، وأن الغايات السياسية لا تبرر الانتهاكات الأخلاقية.
3. ضرورة تأسيس سياسات عقلانية وعادلة: يعتبر كانط أن السياسة التي تعتمد على المصالح الآنية أو التحالفات المتقلبة تفتقر إلى البعد الأخلاقي. لذلك، يشدد على ضرورة تأسيس نظام سياسي عقلاني وعادل، يقوم على التزامات متبادلة بين الدول، ويحترم حقوق الأفراد، ويسعى لتحقيق السلام بوسائل مستقيمة.
السياسة والأخلاق لتحقيق السلام الدائم
بالنسبة لكانط، فإن السبيل إلى السلام الدائم لا يمر عبر المناورات السياسية، بل عبر الالتزام بمبادئ أخلاقية ثابتة. ويتطلب ذلك التوافق بين الأخلاق والسياسة في القوانين والمعاهدات الدولية، بحيث تعمل الدول على تحقيق أهداف مشتركة تحترم الإنسانية، وتبتعد عن الاستغلال والخداع.
بهذه الطريقة، يقدم كانط رؤية مثالية يرى فيها أن السياسة لا تكتمل إلا بالتزامها بأخلاقية ثابتة، تجعل من السلم والاستقرار هدفين أساسيين يرتكزان على مبادئ الحق والعدالة.
الخاتمة:- في الختام، كانت هو من وضع المصطلح الألماني الذي أصبح يُعرف اليوم بـ"عصبة الأمم". ويُعد كتابه "السلم الدائم" دعوة لإقامة اتحاد بين الشعوب، بأعتباره السبيل الوحيد للقضاء على الحروب وتبعاتها الوخيمة. ورغم إدراكه للدور الحضاري الذي قد تلعبه الحروب في بعض الأحيان، إلا أنه اعتبر السلام قاعدة أساسية لتحقيق التقدم الإنساني الحقيقي، وجعل من تحقيقه غاية سامية يسعى إليها البشر جميعًا عبر التعاون المشترك والالتزام بالمبادئ الأخلاقية السامية.