عندما تقرأ عنوان المقال، أول ما سيتبادر إلى ذهنك هو: كيف سنوثق بشكل صحيح ما يدور في عقل المجنون ونحن لم نجرب تجربة الجنون؟ جوابي لك بشكل سريع هو أن هذا المقال هو ملخص لكتاب مؤلفه قد أصيب بنوبتين من الجنون في حياته ووثق تجربته مع الجنون في مؤلفه هذا.
ووتر كوسترس |
كثيرة هي الكتب التي تتناول موضوع الجنون من منظور طبي وتعالجه معالجة علمية تجريبية طبية من خلال العقاقير والأدوية والعلاجات الأخرى التي ترجع سبب الجنون إلى قصور وضعف في الإدراك والإحساس بالواقع.
لكن اليوم، في مقالنا هذا، سنتكلم عن الجنون بلسان حال شخص أصيب به فدون لنا تجربته هو بنفسه. إنه الفيلسوف الهولندي "ووتر كوسترس".
من هو ووتر كوسترس؟
ووتر كوسترس (Wouter Kusters) هو باحث وفيلسوف هولندي، معروف بكتاباته حول الفلسفة وعلاقتها بالصحة النفسية والتجارب الإنسانية. ولا سيما الاضطرابات الذهانية مثل الفصام.
اشتهر بكتاباته التي تتناول تأثير التجربة الذهانية على الفكر الفلسفي، وكان له دور كبير في الربط بين الفلسفة، العقل، والصحة النفسية.
من أشهر مؤلفاته هو كتابه فلسفة الجنون (Philosophy of Madness)، الذي يدمج فيه بين الفلسفة وعلم النفس، ويستعرض فيه تجاربه الشخصية مع المرض العقلي، خاصة الفصام، وكيفية تأثير هذه التجربة على فهمه للعقل والحقيقة.
ووتر كوسترس عاش تجربتين ذهانيّتين استطاع من خلالهما تكوين معرفة، بالإضافة إلى معارفه الناتجة من تجاربه الفلسفية والروحية والصوفية.
ووتر كوسترس عانى من تجربتين ذهانيّتين في حياته، واحدة كانت شديدة التدمير في البداية، وكانت تتضمن الهلاوس والأوهام التي نُظر إليها عادةً على أنها فصام أو اضطرابات ذهانية. في هذه الفترات، شعر كوسترس أنه يدخل في واقع آخر، حيث كانت تجاربه العقلية تتسم بالاختلال ولكن أيضًا بفتح أبواب جديدة من التفكير غير التقليدي.فيما بعد، مر بتجربة ذهانية ثانية، أقل شدة، ولكنها كانت لحظة من الاستبطان العميق عن العلاقة بين العقل، الواقع، والوجود. هذه التجارب الذهانية سمحت له بالتفاعل مع أسئلة الوجود الكبرى على مستوى مختلف. بالنسبة له، كانت هذه التجارب أقرب إلى حالة من الوعي المتغير أو حتى نوع من التفكر الفلسفي الحي والمباشر.
يعتقد ووتر كوسترس أن الاجابة على الاسئلة الوجودية الجوهرية يتطلب عيش أو إمتلاك أحد التجربتين الذهانية أو الفلسفية.
الفلسفة الصوفية تعتبر أن الوعي البشري العادي ليس سوى جزء صغير من الوعي الأوسع الذي يمكن أن يصل إليه الشخص من خلال الممارسات الروحية مثل التأمل، الصلاة، والانسحاب عن الحياة اليومية. هذه الفكرة تتقاطع مع تجارب كوسترس الذهانية، حيث كان يعتقد أن الوعي قد يتحول إلى مستويات أخرى غير مألوفة، تكشف أبعادًا مختلفة من الحقيقة.
ملخص كتاب فلسفة الجنون
في كتابه فلسفة الجنون: تجربة التفكير الذهاني، يقدم الفيلسوف واللغوي الهولندي ووتر كوسترس دراسة فلسفية عميقة تجمع بين الفكر العقلاني والتجربة الذهانية.
الكتاب ليس مجرد تحليل نظري للجنون، بل هو أيضًا تأمل فلسفي في التجربة الذهنية التي مر بها كوسترس شخصيًا، عندما عانى من تجارب ذهانية شديدة في حياتها.
من خلال هذه التجارب، يستكشف ووتركوسترس كيفية تأثير الذهان على الفكر والتصورات المعرفية حول العقل، الواقع، والوجود، ويقدم رؤية غير تقليدية عن العلاقة بين الجنون والفلسفة.
الفلسفة والجنون: طريقان مختلفان للوصول إلى الحقيقة
ووتر كوسترس يقارن بين الفلسفة والجنون كطريقتين للوصول إلى فهم أعمق للحقيقة، معتقدًا أن كلاً منهما يطرح أسئلة وجودية مشابهة، لكنه يسلك مسارات مختلفة.
كوسترس يشير إلى أن الجنون ليس بالضرورة انفصالًا عن الواقع أو الهروب منه، بل قد يكون وعيًّا آخر، حيث تتكشف أمام الشخص مستويات جديدة من الفهم أو الإدراك.
التجربة الذهانية وتشكيل الفهم
تستند فكرة الكتاب إلى تجربة شخصية مر بها كوسترس نفسه، حيث عاش تجربتين ذهانيّتين كانتا بمثابة مداخل لفهم آخر للعقل.
من خلال هذه التجارب، وصل كوسترس إلى فكرة أن الجنون يمكن أن يقدم نوعًا من الفهم العميق والمباشر للوجود. ليس الجنون بالضرورة الهروب من الواقع، بل هو محاولة مختلفة للإجابة على الأسئلة الوجودية الكبرى، مثل: "ما هو الواقع؟"، "من نحن؟"، "ما هو العقل؟".
الجنون والفلسفة الصوفية
في كتابه، يتطرق كوسترس أيضًا إلى التقاليد الصوفية والروحانية، التي ترى أن الوعي البشري العادي ليس سوى جزء ضئيل من الوعي الكوني أو الإلهي.
في هذا الصدد، يطرح كوسترس فكرة أن العقل البشري يمكن أن يمر بتجارب تغير من إدراكه للواقع بشكل يشبه التجارب الصوفية، حيث يختبر الشخص حالة من الوعي المتغير التي قد تؤدي إلى فهم أعمق للحقيقة الكونية.
خلاصة الكتاب: الجنون كوسيلة للمعرفة
يعتبر "فلسفة الجنون" كتابًا يتحدى التصورات التقليدية عن الجنون والفلسفة، حيث يعرض الجنون كأداة للبحث عن الحقيقة وليست مجرد حالة مرضية. كوسترس يعيد تصور الجنون كنوع من الوعي الذي قد يكون فيه الشخص في بحث دائم عن المعنى، ويستخدم الفلسفة والروحانية كمفاتيح لفهم تجربته الذهانية الخاصة. في النهاية، الكتاب يدعونا إلى التفكير في الجنون ليس فقط كإعاقة، بل كطريقة لفهم الإنسان بشكل أعمق وأكثر تعقيدًا.من خلال تقديم التجربة الذهانية كمجال من البحث الفلسفي والتأمل الروحي، يتحدى كوسترس الأفكار التقليدية حول العقلانية ويقترح أن الذهن البشري قادر على إعادة تشكيل فهمنا للوجود من خلال التجارب التي قد تبدو في البداية خارج إطار التفكير العقلاني.
فلسفة الجنون هو دعوة لاستكشاف عمق العقل البشري، وتحدي المفاهيم المعتادة عن الجنون والعقلانية، واعتبار الجنون والفلسفة كطريقتين موازيتين قد تقدمان إجابات مغايرة لأسئلة وجودية قديمة.