آخر وأهم إنتاج للفلسفة الإغريقية القديمة هو الفلسفة الذرية. كانت هذه الفلسفة تمثل أبرز صورة للمفهوم المادي للعالم في ذلك العصر.
ديمقريطس |
بدأت هذه الفلسفة على يد لوقيبوس في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، ثم قام بتطويرها وتقديمها للأجيال القادمة ديمقريطس في القرن الرابع.
نشأت الفلسفة الذرية نتيجة لمجهودات شخصين بارزين هما لوقيبوس وديمقريطس.
ديمقريطس
- أستاذ ديمقريطس:- كان ديمقريطس تلميذًا للوقيبوس، ولكن طغت شخصية التلميذ على أستاذه. وضع لوقيبوس الأساس الأولي للنظرية الذرية، كما وضع مفاهيمها ومقولاتها الأساسية. وقام ديمقريطس ببناء هذه النظرية وربطها بالتجربة.
- معاصرين ديمقريطس:- عاصر لوقيبوس كلًا من أمبادوقليس و أناكساغوراس، وكانت نظرياته تتوازى مع المادية البدائية. أما ديمقريطس فقد عاصر السفسطائيين والإنسانويين الأثينيين، ولذلك وضع اعتبارًا لاهتمامات عصره واستفاد من المفاهيم الجديدة، مما جعل نظامه يقف بمستوى موازٍ للأنظمة الكلاسيكية اليونانية. وقد وصلت إلينا العلوم الذرية فقط من خلال الصياغات التي وضعها هو.
- عصر ديمقريطس:- عاش ديمقريطس في الفترة ما بين 460 - 360 ق.م. في أبديرا، وتتلمذ على يد لوقيبوس، كما تعلم كثيرًا من الرحلات الطويلة التي قام بها.
عاش ديمقريطس في مدينته حياة هادئة انقطع فيها للعلم، وكان بعيدًا عن الحياة الاجتماعية العامة والصخب الذي كان يعيش فيه معاصروه السفسطائيون في أثينا.
- ديمقريطس في أثينا:- وقد سافر ديمقريطس أيضًا إلى أثينا، ولكنه لم يجد هناك التقدير الكافي. وصلت إلينا معلومات كثيرة ومتناقضة عن شخصيته. كان يُطلق عليه اسم "الفيلسوف الضاحك" لدماثة طبعه. كان عالِمًا ممتازًا ورحب المعرفة.
- أعمال ديمقريطس:- وضع تراسيلوس أعمال ديمقريطس المكونة من ستين مؤلفًا في خمس عشرة ثلاثية وذلك في عهد تيبريوس، ولكنها ضاعت كلها. كانت تلك الأعمال تضم كتابات في علم الأخلاق ونظرية الكون والكواكب والطبيعة وطبيعة الإنسان والروح، كما تضمنت دراسات حول الأشكال والألوان والصور.
➖إضافةً إلى ذلك، كتب ديمقريطس في علم المنطق والصوتيات والنار والمعادن، كما اهتم بعلم الهندسة والحساب والفلك والجغرافيا، ووضع دراسات حول الإيقاع والهارموني والشعر وعلم الجمال والكلام والنحو.
➖كما كانت له كتابات في التقنية والطب والزراعة والبيطرة والاستراتيجية الحربية، ويُعتبر مؤسسًا لبعض العلوم التي ذكرناها.
كان يمتاز بقدرة علمية مدهشة في موسوعيتها، وبعده تم تقسيم العلوم المتخصصة بعد أن انفصلت عن الفلسفة. كان ذهنه محددًا وحسه جماليًا، وكان ينادي بأبسط النظريات وأكثرها طبيعة.
ما قبل ديمقريطس ( لوقيبوس)
الأساس الأول لنظام ديمقريطس الناضج أتى بالطبع من لوقيبوس. ونحن لا نعرف كثيرًا عن حياة وأعمال لوقيبوس، كما لم يعرف الإغريق القدامى شيئًا كثيرًا عن حياة هذا الإنسان، حتى ساد رأي بأنه مجرد شخصية أسطورية.
فلا نعرف من أين ينحدر، ولكن من المحتمل أنه كان يسكن في أبديرا وكان يدير فيها مدرسة. وكانت مفاهيمه، تمامًا مثل أمبادوقليس وأناكساجوراس، تسعى للربط بين فلسفة الطبيعة الأيونية والعلوم الإيلية. ومن المرجح أنه كان سابقًا لكل من أمبادوقليس وأناكساجوراس.
اعتمد ديمقريطس أساسًا على لوقيبوس، ولكنه كان يهتم أيضًا بكل التعاليم الفلسفية السائدة في عصره. نرى في مفاهيمه ردود أفعال تجاه نسبية بروتاغوراس السفسطائي في أبديرا. كما تبادل التأثير مع الفيثاغوريين في معاملته الرياضية للطبيعة، واستفاد أيضًا من حكمة شعوب الشرق التي تعرف عليها في رحلاته.
فلسفة ديمقريطس
أولًا:- نظرية المادة عند ديمقريطس والذريون
- الوجود الثابت:- وافق الذريون على نظرية بارمنيدس حول عدم تغير الوجود، ولكنهم خرجوا من هذه النظرية بنتائج مخالفة له. لم يعتقدوا بإمكانية أن تكون نظرية الوجود متعارضة مع الظواهر إذا أضافوا إلى النظرية الإيلية حول عدم التناقض قاعدة أخرى، وهي الاتفاق مع التجربة. وهكذا استطاعوا، كما قال أرسطو، أن يضعوا أساسًا للعالم باعتباره نظرية للشرح تقوم على أسس من القواعد التي تثبتها التجربة.
يتناول النص فكرة الذرية وعلاقتها بنظرية بارمنيدس حول الوجود، ويتطرق إلى كيفية توافق الذريين مع بعض جوانب هذه النظرية بينما يقدمون رؤى مختلفة. إليك شرحًا مبسطًا للمحتوى:
موافقة الذريين على نظرية بارمنيدس: بارمنيدس كان فيلسوفًا إغريقيًا ينادي بأن الوجود ثابت وغير متغير، بمعنى أن كل شيء موجود يبقى كما هو ولا يحدث له تغيير. الذريون، كديمقريطس، أقروا بهذا المبدأ، ولكنهم لم يتفقوا مع بارمنيدس في استنتاجاته.
اختلاف الذريين مع بارمنيدس: على الرغم من أنهم وافقوا على فكرة عدم تغير الوجود، إلا أنهم لم يعتبروا أن هذا يعني أن هناك تناقضًا بين الوجود والظواهر التي نراها. بمعنى آخر، قد يكون هناك تغير في الظواهر، لكن هذه الظواهر ليست بالضرورة تعكس عدم وجود تغير في جوهر الوجود نفسه.
إضافة قاعدة جديدة: الذريون أضافوا قاعدة أخرى لنظرية بارمنيدس وهي "الاتفاق مع التجربة". وهذا يعني أن المعرفة يجب أن تستند إلى ما نراه ونختبره في العالم الحقيقي. لذلك، اعتقدوا أنه من الممكن أن نربط بين الفهم الفلسفي للوجود والتجارب الحياتية.
وضع أساسًا للعالم: بفضل هذه الإضافات، تمكن الذريون من بناء نظرية تشرح طبيعة العالم. كما أشار أرسطو، فإن هذه النظرية لا تكتفي بالاعتماد على العقل فقط، بل تستند أيضًا إلى الأدلة التجريبية.
بمعنى آخر، الذريون قدموا رؤية متميزة ترى أن هناك توازنًا بين الثبات في الوجود والتغيرات التي نلاحظها في العالم، وقد جعلوا تجربتهم المباشرة جزءًا أساسيًا من فلسفتهم.
- الذرات:- قادهم هذا الموقف المنهجي إلى المفهوم القائل بأن المادة تتكون من الذرات.
- وكانت هذه الذرات تمثل مقابلاً لحيويات أمبادوقليس ونتاجات أناكساجوراس.
- الذرات كانت تعني، حسب معنى الكلمة اليونانية، الجزيئات التي لا تنقسم. وكان الإيليين يعتقدون أنها غير متغيرة، ولكن بتحركها في المكان تخلق كل مرة تكوينًا جديدًا ومتغيرًا للعالم.
- وتقول إحدى الأساطير إن الدافع للفكرة الذرية لدى لوقيبوس كان منظر الأشعة التي تتلألأ في الأنوار.
كانت للنظرية الذرية القديمة أربع مقولات رئيسية:
تتكون الطبيعة كلها من مجموع ذرات وجزيئات غير قابلة للانقسام، ومنها تتكون كل الأجسام الموجودة في الطبيعة.
تملك الذرات خواصًا كمية فقط، ولا تملك خواصًا كيفية.
تختلف خواص كل ذرة عن الأخرى فقط في ثلاثة أشياء: الشكل، الوضع، والنظام.
الخاصية الأساسية للذرات هي الحركة. وهي خالدة خلود الذرات، ولا تحتاج لأي قوة من الخارج، إذ تعتمد فقط على تغير الوضع في المكان. وهي تمثل الشكل الوحيد للتغير الذي يحدث للذرات.
- الفراغ:- توجد الذرات وتتحرك في الفراغ، على الرغم من أن الفلسفة القديمة، وخصوصًا الإيلية، رفضت الاعتراف به.
- وجود الفراغ ضروري لشرح الظواهر وخصوصًا الحركة. فكيف يمكن للذرات أن تتحرك إن لم تجد مكانًا فارغًا تحتله؟
- يشرح الفراغ أيضًا ظاهرة تزايد الأشياء وتقلصها ودرجات المقاومة المختلفة للأشياء.
- ولذلك كان الذريون يؤكدون وجود الفراغ بنفس الدرجة التي يؤكدون بها وجود الذرات.
- يقول ديمقريطس: "ما يوجد حقيقة هو الذرات والفراغ". وقد أطلق على الذرات اسم الوجود وعلى الفراغ اسم اللاوجود، وفي هذا الصدد قال مقولته الشهيرة: "ليس هناك وجود أكثر من اللاوجود". تكمن أهمية نظرية الفراغ في فهم المادة باعتبارها محدودة.
- اختلاف الإيليين عن غيرهم:-
- وحيدة النوع.
- غير متحركة.
- غير محدودة.
بينما الذريون يرونها متنوعة، متحركة، ومحدودة.
➖كما يختلف الذريون أيضًا عن كل من أمبادوقليس وأناكساجوراس في أن الآخرين كانا يريان أن مكونات الطبيعة تختلف عن بعضها كيفيًا. ويرى الذريون أن الاختلاف كمي، حيث تختلف كل ذرة عن الأخرى فقط بخواصها الرياضية والهندسية.
وكانوا يشرحون الاختلافات الكيفية في الطبيعة بصورة كمية، وبهذا أصبحت القضايا أكثر بساطة ومدعاة للفهم، أو على الأقل من السهل حسابها، وهي درجة راقية من العلم.
➖الاختلاف العميق بين الذريين وأناكساجوراس يكمن في أن أناكساجوراس يعتقد بأن المادة قابلة للانقسام إلى ما لا نهاية، بينما يرى الذريون أننا يمكن أن نقسم الفراغ، لكن مكونات المادة غير قابلة للانقسام.
➖الجدير بالذكر أن نظرية الذريين القدامى لا تختلف كثيرًا عن النظرية الذرية المعاصرة، والاختلافات تقع في الآتي:
- كان ديمقريطس يعتقد بأن أنواع المادة غير محدودة الكمية، بينما حصرها العلم المعاصر في بضع عشرات.
- لم يعترف ديمقريطس بمفهوم الجزيئات، بل وتحدث عن الذرات ثنائية التكوين. في اعتقاده، كانت الذرة تقوم بالدور الذي ينسبه العلم الحديث للجزيئات.
- لعدم معرفته بقانون الجاذبية، كان ديمقريطس يصف ارتباط الذرات مع بعضها بصورة ميكانيكية.
- كان ديمقريطس يعتقد بأن وجود الذرات هو أكثر الأشياء حقيقة وتأكيدًا، بينما يعاملها العلم المعاصر باعتبارها مجرد افتراضات.
ثانيًا:- نظرية نظرية الإدراك الذاتية عند ديمقريطس
قام ديمقريطس بتكملة نظريته الذرية بنظريته حول السلبية، وهي أن الذرات تملك فقط خواصًا رياضية، بينما لا تملك أي كيفية حسية.
- الوجود الحقيقي:- يقول ديمقريطس إن ما يوجد حقيقة هو الذرات والفراغ، بينما يمثل الطعم، والحلو، والمر، والألوان عناصر ذاتية. نعتقد ونتخيل أن لهذه الأشياء خواصًا نلاحظها، لكن الوجود الحقيقي هو للذرات والفراغ.
- كان ديمقريطس يعتقد أن الخواص الحسية ذاتية، ومع ذلك يكون لها دور في تكوين الذرات. على سبيل المثال، الأشياء البيضاء مركبة من ذرات ناعمة، والسوداء من ذرات خشنة وغير متساوية. هذه الفكرة تؤكد على أهمية التكوين الذري في تحديد خواص الأشياء.
➖هناك أساس قديم لنظرية ذاتية الكيفية الحسية، إذ كان الفلاسفة القدامى يميزون بين الوجود والظواهر. كانوا يشككون في دقة الإدراك، وخاصة الإيليون الذين تحدثوا عن نسبية المعطيات الحسية. لكن لم ينادِ أحد قبل ديمقريطس بأن الإدراك يمكن أن يكون ذاتيًا بشكل صريح.
➖بل على العكس، كان الفلاسفة القدامى يرون أن الإدراك يجب أن يكون متوافقًا مع الواقع الموضوعي. النتيجة الطبيعية لذلك هي النسبية، حيث إن الناس يلاحظون الواقع بطرق مختلفة، ما يجعل الملاحظة نسبية. وطالما نلاحظ فقط الأشياء الموجودة فعليًا، فإن الوجود نفسه نسبي.
➖خرج السفسطائي بروتاغوراس بهذه الفكرة، لكن ديمقريطس لم يتفق معها. نادى بأن ليس كل الناس قادرين على الملاحظة الموضوعية، فالإدراك بالنسبة له لا يعطي صورة حقيقية للواقع. الحالات الذهنية هي ما تفعله، وهذا مثل لحظة حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي.
- أداة المعرفة:- نادى الذريون ذوو الحس التجريبي بعدم فهم الواقع فقط حسبما تعطينا الحواس. كانت نظرية الكيفية الذاتية للحواس عند ديمقريطس متطورة جدًا، بحيث لا تختلف كثيرًا عن النظريات المعاصرة. وطالما أن الإدراك غير جدير بمعرفة الواقع، يجب البحث عن أداة أخرى للمعرفة.
➖العقل هو الأداة الوحيدة المتبقية للمعرفة. ميز ديمقريطس بين نوعين من المعرفة: "الحقيقية" و"المظلمة".
- المعرفة الحقيقية تأتي من العقل.
- أما المعرفة المظلمة فهي تلك التي تأتي من البصر، السمع، اللمس، والذوق، أي من الحواس.
➖لم يرفض ديمقريطس المعرفة الحسية كما فعل الإيليون، لكنه أكد على ذاتيتها وعدم وضوحها وحدودها. ومع ذلك، ليس للعقل حدود. عندما لا تستطيع رؤية، أو سماع، أو تذوق، أو لمس شيئًا ما، مثلًا لصغر حجمه، علينا أن نلجأ للعقل لأنه يملك جهازًا أكثر حساسية.
- التجربة عند ديمقريطس:- نادى ديمقريطس بشيء أساسي في الفلسفة، وهو التجربة مع نقد المعرفة الحسية. كان يعتقد أن التجربة الحسية تدفع الإنسان للبحث والدراسة، لكنها لا تستطيع توجيه هذه الدراسة. لم تستند ذراته إلى التجربة فقط، ولكنه شرحها عن طريق التجربة أيضًا.
➖كان ديمقريطس يربط بين التجريبية والعقلانية، وكان رائدًا في هذا المجال. أصبحت هذه الفكرة لاحقًا عمادًا للفكر الفلسفي العلمي، حيث استمر الفكر الفلسفي في الاعتماد على التجربة والعقل كأدوات أساسية لفهم العالم.
ثالثًا:- مفهوم السببية (العلة)
- قانون الحتمية:- حاول الذريون شرح الظواهر عن طريق شرح الأسباب. تقول الكلمات الوحيدة التي وصلتنا من لوقيبوس: "لا يحدث أي شيء بدون سبب، ولكن تحدث الأشياء كلها حسب قانون الحتمية." يقال بأن ديمقريطس صرح بأنه على استعداد لمبادلة الدولة الفارسية مقابل العلم الذي يشرح الظواهر سببيًا.
➖كان الذريون يفهمون الأسباب بطريقة مادية وميكانيكية. فقد كانوا يرون أن أسباب الظواهر الفلكية، مثل حركة الشمس والقمر والكواكب، تكمن في ضغط الهواء الذي يملأ الكون على هذه الأجسام. وقد واجهوا في عصرهم اتهامًا بأنهم "تركوا العالم للصدفة"، وهكذا كان يفهمهم أنصار "القدرية."
➖في الواقع، لم يرجع الذريون إلى أي أهداف أو غايات، وإنما كانوا فقط يشرحون الأسباب. صحيح أن النظرة السطحية للعالم تقودنا إلى افتراض الغائية في بناء العالم: ينزل المطر حتى تنمو النباتات، وهناك بعض الغائية في تكوين أجسام الحيوانات.
➖لكن لم ينزل زيوس المطر لكي تنمو النباتات، وإنما يهطل المطر كنتيجة حتمية لظواهر جغرافية. والنبات ليس غاية للمطر، ولكنه نتيجة جانبية لهذه الأحداث. ونفس الشيء بالنسبة للكائنات الحية؛ فقد حتم تطورها هذه الأحجام، لأنه إذا كان هناك غاية، لماذا احتفظت بعض الكائنات بالحياة وفنت الأخرى؟
- القوة العليا:- كانوا يرفضون بتاتًا وجود أي قوة عليا توجه هذا العالم، ويقولون إن العقل سلطة إنسانية فقط ليخدم المعرفة، ولا يمثل أي قوة كونية.
➖وكان هذا الموقف يمثل من وجهة النظر الميتافيزيائية نقصًا في نظامهم، ولكن هذا النقص هو الذي جعلهم أقرب الفلاسفة القدامى إلى العلم المعاصر.
➖وعلى أساس هذا الفهم، كان ديمقريطس يشرح ظواهر العالم. كان يعامل السماء تمامًا كما يعامل الأرض، ولم يلاحظ أي فرق بين طبقة الأرض وطبقة السماء.
➖هذا الفرق ساد كثيرًا في الفلسفة الإغريقية قبل الذريين وبعدهم، والذي رسخه أرسطو بطريقة عميقة كلفت البشرية عدة قرون للتخلص منه.
رابعًا:- علم الاخلاق
- نظام ديمقريطس الفلسفي:- مضى ديمقريطس بأفق أوسع من سابقيه الفلاسفة، الذين اقتصروا فقط على شرح ظواهر الطبيعة. فقد وسع من نظامه الفلسفي ليشمل قضايا القيم الأخلاقية والجمالية. وعلى الرغم من اندثار أعماله في علم الجمال، بقيت بعض أعماله في علم الأخلاق، والتي لها أهمية في نظامه الفلسفي.
- إسهامات ديمقريطس في علم الاخلاق:- تشكل هذه الأعمال تطويرًا لأفكار الحكماء السبعة حول قوانين الحكمة الحياتية. وقام ديمقريطس بتجديد القضايا الأخلاقية، إذ فصل العوامل الأخلاقية عن النشاطات التي تتم بفعل القهر أو أي عوامل جبرية أخرى، مثل محاولة لفت الأنظار. فقد قال: "يجب تجنب الأخطاء لا خوفًا، وإنما احترامًا للواجب".
- الشر عند ديمقريطس:- العمل الأخلاقي لا يقتصر فقط على عدم فعل الشر، بل إن مجرد النية لفعل الشر يعتبر عملاً غير أخلاقي. وأهم ما في علم الأخلاق الديمقريطي هو أن أعلى درجة من الخير هي السعادة، والعقل هو الطريق للحصول على هذه السعادة، وهي حالة من انسجام الروح والهدوء والسلام.
- الاعتدال في السعادة:- يجب الحصول على السعادة باعتدال، لأن اللذة عندما تتجاوز حدها تتحول إلى عكسها. فعدم الاعتدال يؤدي إلى تأنيب الضمير، وهو ما يحرمنا من هدوء الروح. والعقل هو الذي يقود سلوكنا. ديمقريطس كان دائمًا يضع العقل في مواجهة الحس، حيث أن اللذة الحسية قصيرة الأجل، ولكن "اللذة الذهنية تحتوي على شيء خالد لا ينتهي."
دور الذريين
1- وضع برنامج عقلاني - تجريبي وربطه بنظرية السببية.2- وضع النظرية الذرية كنظرية بسيطة تشرح العديد من الظواهر بطريقة عقلانية، وتتميز بقيمة جمالية عالية.
3- وضع نظرية الكيفية الذاتية للحواس.
4- بناء أكمل فلسفة مادية في العصر القديم.
أثر ديمقريطس والمعارضة ضده
كانت الذرية أعمق نظرية وضعها الفكر اليوناني القديم، وكان لديمقريطس عائلة متعددة المعارف. وقد أعاقت ظروف كثيرة عملية اشتهاره في الفكر الإنساني، مثل ضياع مؤلفاته وعدم ترحاب الفلاسفة بعده بمفهومه المادي. كما أن ظهور شخصيات عملاقة بعده، مثل أفلاطون وأرسطو، قلل من تأثيره.
يمكن القول بأن فلسفته المادية كانت محصورة في زمانه فقط، وسط المجموعات المثقفة. ولكن حدث في زمنه تحول أساسي في الفلسفة نحو الاتجاه المثالي والقدري، مما جعل فلسفته تواجه هجومًا ضاريًا. كان أفلاطون يتجاهل مفاهيم منافسه ديمقريطس، بالرغم من معرفته بها، إلا أنه لم يتحدث عنها مطلقًا.
حتى في عصر المثالية، كان لديمقريطس تلاميذ وأنصار واصلوا تعاليمه حتى المرحلة الهيلينية، حيث وجدت مفاهيمه تقديرًا عاليًا. قام ناوزيفانس بمواصلة تعاليم ديمقريطس حتى أبيقور، الذي بعث الفلسفة الذرية من جديد. وقام آخرون بتطوير الموقف الذري لديمقريطس ودفعه في اتجاه التشكك، وهو ما كان ديمقريطس يرفضه.
وهكذا قام بيرون والشكاك الأكاديميون بتطوير هذه الأفكار. هناك رواية تقول إن الشكاك استمدوا فلسفتهم من ديمقريطس. كان ديمقريطس أستاذًا لليسانس ثم مترودو ثم أناكسارج وأخيرًا بيرون. وكان سيسرون يعتبر ديمقريطس في نفس درجة أهمية أفلاطون، لكن هذا التصنيف انتهى في عهد القياصرة وفي مرحلة سيادة الوعي الديني.
في تلك الفترة، نادت الدوائر الفلسفية مثل الفيثاغوريين الجدد والأفلاطونيين الجدد بأن الفلسفة الإغريقية الوحيدة هي الفلسفة المثالية، والتي صاغها ثلاثة مفكرين عظماء: فيثاغوراس، أفلاطون، وأرسطو. هذا الفهم ساد حتى القرون الوسطى. لذلك، ليس غريبًا أن تضيع أعمال ديمقريطس التي هوجمت وأدينت.
كادت هذه الفلسفة أن تندثر لولا مجهودات الأبيقوريين في حفظها ونشرها من جديد.