أدى التباين بين الهيراقليطية والإيلية إلى محاولات لتوحيدهما. تمت العديد من المحاولات في هذا الصدد، وكانت كلها تعتمد على الاحتفاظ بالاعتقاد البارمنيدي بوحدانية الوجود. ومع ذلك، في محاولاتها لشرح التغيرات التي تحدث في الظواهر، كانت ترفض هذه الوحدانية.
أمبادوقليس |
تمت هذه المحاولات في القرن الخامس قبل الميلاد، وكان من بين الذين قاموا بها أمبادوقليس. ينحدر أمبادوقليس من مدينة أفريقنت، التي تُعرف حالياً باسم فيرجنت، وكانت أغنى مدن عصرها في صقلية. عاش أمبادوقليس في الفترة من 490 إلى 430 ق.م، وكان يتنقل ما بين صقلية واليونان الكبرى.
كان أمبادوقليس متميزاً عن فلاسفة عصره؛ إذ كان طبيباً وكاهناً وشاعراً وفيلسوفاً، واشتهر بالأعمال الخارقة. كان يعتبر نفسه كائناً روحياً قريباً من الآلهة، وكان محبوباً من الجماهير نتيجة لهذه الأعمال الخارقة. كانت تلك الأعمال مجرد "معجزات تقنية" نتيجة إلمامه بالعلوم الطبيعية.
ومع ذلك، فقد أمبادوقليس جاذبيته لدى الجماهير في النهاية، ومات في المنفى في مدينة بيلوبينيزا. بعد وفاته، أصبح شخصية أسطورية بارزة، وما زالت فلسفة أمبادوقليس تلهم الكثيرين حتى اليوم.
أعمال أمبادوقليس
كان مؤلفه الأساسي "حول الطبيعة" يتميز بأسلوبه الشعري أكثر من محتواه الفلسفي. في الجزء الأول من قصيدته، تحدث أمبادوقليس عن العالم بشكل عام، وعن قواه وحيوياته. أما الجزء الثاني فقد خصصه للنباتات والحيوانات، وفي الجزء الثالث تناول الأمور الإلهية والروح.
كانت فلسفة أمبادوقليس تتمحور حول فلسفة الطبيعة، وكانت قريبة من فلسفة الأيونيين. ومع ذلك، كان ملماً أيضاً بالمدارس الفلسفية الغربية، مثل المدرسة الإيلية والفيثاغورية. كان أمبادوقليس تلميذاً مباشراً لبارمنيدس، وسعى لربط الفلسفة الإيلية بالتقاليد الأيونية.
مفاهيم أمبادوقليس
يظهر التباين بين الهيراقليطية والإيلية بشكل واضح في النظرتين المتضاربتين تجاه طبيعة الواقع. في حين ركز هيراقليطس على التغير المستمر والحركة كسمات جوهرية للوجود، تمسك بارمنيدس بفكرة وحدانية الوجود وثباته المطلق. هذه التناقضات بين النظريتين أدت إلى ظهور محاولات فلسفية لتوحيد المفهومين.
أبرز هذه المحاولات كانت تهدف إلى الحفاظ على اعتقاد بارمنيدس بوحدانية الوجود، ولكنها في الوقت نفسه سعت إلى تفسير التغيرات التي نراها في العالم المحسوس. لذلك، جادل الفلاسفة الذين حاولوا التوفيق بين النظريتين بأن التغيرات الظاهرة قد تكون مجرد تحولات سطحية في كيان واحد وغير متغير.
نظرية المادة عند أمبادوقليس
لا يمكن لأي شيء أن ينشأ من شيء غير موجود، ومن المستحيل أن يفنى ما هو موجود. كان أمبادوقليس متحمساً لهذه الفكرة البارمنيدية، لكنه استخدمها فقط بالنسبة للمكونات البسيطة للأشياء، واعتبر أن الأشياء المركبة هي التي تنشأ وتفنى. بهذا الحل الوسط، تم التصالح بين موقف بارمنيدس وهيراقليطس، أي بين مطالب الأول والحقائق التجريبية التي سجلها الثاني.
هذا التصالح تم لأن ثبات المكونات لا يتناقض مع تغيير الأشياء. فالمكونات الثابتة يمكن أن ترتبط وتنفصل، لكنها لا تتغير في ذاتها، وإنما تتغير تكويناتها. بذلك، تنشأ الأشياء المرتبطة بهذه التكوينات وتفنى. المكونات تتواكب واحدة وراء الأخرى وتتحول إلى أشياء متعددة التكوين. قال أمبادوقليس: "لا نشوء لأي شيء فاني، كما لا يمثل الفناء نهاية. يوجد فقط الاختلاط وتبادل ما هو مختلط."
لتطوير هذا المفهوم، كان على أمبادوقليس التخلي عن التفسير الواحدي للعالم، الذي يخدم أساساً مادياً واحداً، والتحول نحو التفسير التعددي. أخذ أمبادوقليس بالمفهوم الذي يقول بوجود أربعة مكونات كيفية للعالم، وهي أربعة أنواع من المادة.
هذه المكونات كانت مأخوذة من فيزيائيي عصره، حيث أن طاليس اعتبر الماء، وأنكسمينس اعتبر الهواء، وهيراقليطس اعتبر النار، وإكسينوفون اعتبر الأرض كمكونات أساسية.
أخذ أمبادوقليس كل هذه المكونات معاً، واعتبرها أكثر أنواع الأجسام اشتهاراً في الطبيعة. تختلف هذه المكونات فيما بينها، ونادى أمبادوقليس بأربعة حالات للمادة: الحالة النارية، والجوامد، والسوائل، والغازات. سمى أمبادوقليس هذه الحالات الأربع "جذور كل شيء"، والتي أصبحت تعرف لاحقاً بالحيويات أو العناصر.
وكما يرسم الفنان لوحة متعددة الألوان من عدد محدود من الألوان، كذلك تضع هذه الحيويات المحددة أنواعاً متعددة من الأشياء. لم يجد أمبادوقليس الحل النهائي لهذه المسألة، لكنه وفق في طرحها. كان يبحث عن المكونات البسيطة للمادة، ولذلك يمكن اعتباره مؤسساً لمفهوم العناصر.
وسع أمبادوقليس مفهوم بارمنيدس للوجود وربطه بالظواهر، مما جعل هذا المفهوم قابلاً للتطبيق في العلوم الطبيعية. بهذا الشكل، هيا أمبادوقليس الأساس لعلم الكيمياء، ويمكن القول بأنه بدأ هذا العلم. حاول شرح العلاقة بين الأجسام، معتبراً أن الاختلافات بينها كمية وتركيبية.
كان تفسيره ساذجاً بعض الشيء، حيث كان يقول إن اللحم والدم يحتويان على كميات متساوية من الحيويات، وإن نصف العظم هو نار، وربع أرض، والربع الآخر ماء. ورغم سذاجة هذا التفسير، كان تفكيراً كيميائياً متقدماً في عصره.
نظرية القوة عند أمبادوقليس
كانت القضية الثانية في الأهمية بالنسبة لأمبادوقليس هي: لماذا ترتبط الحيويات مع بعضها وتنقسم؟ كانت هذه القضية جديدة تماماً؛ إذ كان الفلاسفة الأيونيون يتساءلون فقط عن كيفية هذه التغييرات وليس عن سببها. كان السؤال: لماذا تحدث التغييرات في المادة؟ أي لماذا يتغير ما هو متغير بطبيعته؟
كان الفلاسفة الأيونيون يعتقدون أن المادة تمتلك قدرة ذاتية على التواجد، ولم يفصلوا بين القوة والمادة. كانوا يرون التغيير بوصفه تحولاً داخلياً، أي عملية ديناميكية داخلية.
لكن مع مرور الزمن، تم التفريق بين المادة والقوة. وكانت العلوم الإيلية، التي أكدت على عدم تغيير الوجود وعدم حركته، تدفع إلى معاملة الحيويات بوصفها كتلة ثابتة.
التغيرات، وفقاً لأمبادوقليس، تحدث نتيجة تدخل قوة خارجية. فبينما كان الفلاسفة القدماء يرون أن القوة إما جاذبة أو دافعة، كان بارمنيدس يسميها "الحب"، بينما أطلق هيراقليطس عليها اسم "التنافر". هنا، اتخذ أمبادوقليس موقفاً تعددياً، إذ ربط بين المفهومين، ونادى بوجود قوتين: قوة الحب وقوة التنافر. وقال إن هاتين القوتين "وجدتا دائماً وستوجدان، ولن يأتي زمان يخلو من هذه الثنائية".
فلسفة أمبادوقليس تمثلت في وجود أربع حيويات تتحرك بواسطة قوتين. القوة التي لها الغلبة في لحظة معينة هي التي تحدد حالة العالم. ينقسم تاريخ العالم إلى أربع مراحل:
- الأولى هي الحالة الأولية حيث لم تعمل بعد أي من القوتين، وتكون فيها الحيويات بلا حركة وغير مختلطة، وكل شيء في مكانه بنظام رائع.
- المرحلة الثانية تتميز بعمل قوة التنافر، والتي تؤدي إلى المرحلة الثالثة.
- المرحلة الثالثة: حالة الاختلاط الكلي والفوضى بين الحيويات.
- بعد ذلك تأتي المرحلة الرابعة، حيث تعمل قوة الحب، التي تربط الأشياء المتشابهة ببعضها وتعيد الانسجام إلى العالم. وهكذا، يسير العالم في دورات متكررة.
النظريات البيولوجية والسيكولوجية عند أمبادوقليس
بجانب نظريته العامة للعالم، كان أمبادوقليس يملك العديد من المعلومات التفصيلية حول الطبيعة. بعض هذه المعلومات كانت مجرد أفكار عابرة، لكن البعض الآخر كان يمثل تطبيقاً للنظرية العامة.
- كان بارعاً في تفسير الظواهر البيولوجية، حيث اعتقد أن نشوء الكائنات العضوية يتم بفعل الصدفة. قال: "ترتبط الأعضاء ببعضها حسب ما تقتضيه الصدفة"، لكنه أشار إلى العديد من الصدف التي لم تحدث مثل "رؤوس بدون أعناق" و"عيون بدون وجه".
تعتبر هذه النظرية، بجانب فكرة أن الكائنات الأقل تنشأ قبل الكائنات الأكمل، تمثيلاً أولياً لنظرية الانتخاب الطبيعي والتطور.
- وفي مجال العلوم البيولوجية، اعتقد أمبادوقليس أن الشعر، أوراق الشجر، ريش الطيور، وصوف الحيوانات كلها شيء واحد. هذه الفكرة البسيطة ساعدت على تطور علم المورفولوجيا المقارنة في وقت لاحق.
- فيما يخص علم النفس، قدم أمبادوقليس نظرية سيكولوجية شهيرة تعتمد على مفهومه الفلسفي العام. كان يعتقد أن عملية الإحساس تحدث بفضل نشاط قوة "الحب"، حيث يتحد الشبيه مع شبيهه. قال: "بالأرض نرى الأرض، وبالماء نرى الماء، وبالحب نرى الحب، وبالكراهية نرى الكراهية". هذا يعني أن كل الحيويات موجودة في العين حتى تستطيع العين رؤية الطبيعة.
- كان الافتراض الثاني في نظرية الإدراك الحسي عند أمبادوقليس هو أن الإدراك يحدث فقط من خلال الاحتكاك المباشر بين عضو الحاسة والشيء الملاحظ. هذه الفكرة انتشرت بين الإغريق، وشرح من خلالها كيف نرى الأشياء؛ إذ أن التأثيرات تنبع من الأشياء ومن العين وتتقابل عند حدقة العين. هذا التصور الساذج كان أساساً لفكرة سليمة وهي أن الإدراك يعتمد على بنية العضو.
- كما وضع أمبادوقليس نظرية للعواطف تعتمد على قاعدة التشابه. كان يرى أن الاستمتاع ينتج عن التشابه بين الحيويات وخليطها، بينما ينتج الحزن من التضاد. أخيراً، أسس علماً للطباع يعتمد على أسس فسيولوجية، مستخدماً نظريته حول الحيويات. كانت هذه النظرية بدائية، حيث قالت إن الحيويات الذكية تحتوي على خليط مضبوط، بينما تحتوي الكائنات الغبية والكسولة على خليط خفيف.
- بالإضافة إلى ذلك، كان يرى أن من كان خليط حيوياتهم مناسباً في الأيدي يصبحون حرفيين جيدين، ومن كان لديهم خليط مناسب في اللسان يصبحون خطباء بارعين. تعتبر هذه الأفكار جزءاً من فلسفة أمبادوقليس وتطبيقاتها على العلوم الطبيعية والنفسية.
أهمية أمبادوقليس
تميزت أعمال أمبادوقليس بالآتي:
- أولاً، كانت أول نظرية تعددية حول المادة تربط بين نظرية التنوع ومفاهيم الإيليين.
- ثانياً، تميز بفكرة التفريق بين القوة والمادة، وهو مفهوم جديد آنذاك. ثالثاً، قدم نظرية فريدة حول الإدراك، مما جعله رائداً في مجالات الفلسفة الطبيعية.
على الرغم من ذلك، كان أمبادوقليس عالماً في الطبيعة أكثر من كونه ميتافيزيائياً. فقد ترك العديد من الأفكار المفيدة في مجالات الكيمياء والبيولوجيا وعلم النفس الفسيولوجي. كان لأعماله تأثير كبير في تطوير تلك العلوم.
تطورت أفكار أمبادوقليس عبر مفاهيم أنكساغوراس الأكثر نضجاً، وكذلك من خلال مفاهيم الفلاسفة الذريين. كما كان لأمبادوقليس تأثير كبير على مدرسة الأطباء في صقلية وعلى بعض العلماء الفيثاغوريين، مما جعل فلسفة أمبادوقليس حجر أساس لتطوير العلوم في عصره.