recent
أهم الموضوعات

طاليس: العقل الذي أطلق شرارة الفلسفة والعلم في اليونان القديمة

تحوّل الإغريق من الفهم الأسطوري والفهم الذي يعتمد على المهارة إلى العلم، وكان ذلك في القرن السادس قبل الميلاد. يُقال أن طاليس هو أول من بدأ هذا التحول. عاش هذا المفكر الأسطوري في الفترة ما بين القرنين السابع والسادس قبل الميلاد، وتحديدًا في السنوات (634 - 547 ق.م)، أي خلال عهدي سولون وكريزيوس.

طاليس
طاليس

كان طاليس ممثلاً بارزًا للحكمة والمهارة في زمانه. وعلى الرغم من قلة المعلومات المؤكدة التي نملكها عن حياته، والتي استقيناها من الأجيال اللاحقة له، يمكننا القول بأنه كان يتمتع بعدة مواهب. فقد كان سياسيًا، وواحدًا من الحكماء السبعة، كما كان تقنيًا، ومهندسًا، وتاجرًا، ورحالة. من البلدان التي ارتحل إليها، لم يجلب طاليس البضائع فقط، بل أيضًا المعرفة والمهارات.

وقبل كل شيء، كان طاليس عالمًا. وعلى الرغم من أنه لم يسجل أفكاره كتابةً، إلا أن فلسفة طاليس قد تركت أثرًا عميقًا في تطور الفلسفة والعلم.

طاليس-الانتقال من المهارة الى العلم

كان طاليس يعرف كيفية قياس طول الأهرامات والمسافات التي تفصل السفن عن البحر، مما يعطي انطباعًا بأنه كان عالمًا في الهندسة. وقد تنبأ ذات يوم بكسوف الشمس في 28 مايو 585 قبل الميلاد، حيث أدهش الإغريق بقدرته على القيام بذلك. هذا يخلق أيضًا الانطباع بأنه بالإضافة إلى كونه عالمًا، كان فلكيًا، ولكنه كان يقوم بحساباته بطريقة تقنية أكثر مما كانت علمية. كان يقوم بالحسابات دون معرفة طريقة لإثباتها، كما كان يتنبأ بالظواهر دون أن يشرح أسبابها.

هذا النهج مشابه لما كان يقوم به المصريون في بناء الأهرامات، وكذلك البابليون في تنبؤاتهم الفلكية. يبدو أن طاليس قد اكتسب هذه المهارات من البابليين والمصريين. لذلك، لا يمكننا اعتباره مؤسسًا للعلوم الرياضية والفلكية، حيث ظهرت هذه العلوم بشكل متطور بعده بكثير. كان طاليس يمتلك المهارة، لا المعرفة العلمية. فهناك فرق بين العلم والمهارة.

الفرق بين العلم والمهارة :

  • الملاحظة الفردية الصائبة أو المقولة الحقيقية لا تعتبر علمًا ما لم تتوافر شروط أخرى. 
  • لتقييم الملاحظة علميًا، يجب أن ترتبط بالملاحظات الأخرى بشكل منظم. 
  • الوعي العام بأن الأشياء يجب أن تكون بهذا الشكل لا يعتبر علمًا ما لم يُدعم بتحليل يبرر هذا التعميم في شكل مقولة علمية باستخدام المفاهيم.

قبل ظهور علم الرياضيات، كان الناس يعلمون مثلاً أن بناء الكوخ الصالح للسكن يتطلب تثبيت الكوخ على عمودين متساويين وبنفس الانحناء. ومع ذلك، لم يكن بإمكان أي شخص صياغة هذه الحقيقة في شكل مقولات عن المثلث متساوي الساقين وإثبات هذه المقولات.

لذا، لكي نحكم على المعلومات بأنها علمية، يجب أن تكون منظمة، محللة، ومبرهنة. فالعلم لا يتطلب فقط المعرفة، بل الفهم أيضًا. إن هدف العلم يختلف عن هدف المهارة؛ هدف العلم هو الحقيقة لذاتها، بينما تسعى المهارة نحو الحقيقة ذات القيمة العملية. المهارات نشأت من الأهداف العملية وظهرت لخدمة هذه الأهداف. وعندما بدأ الاهتمام بالحقائق لذاتها، بدأنا ندخل في مجال العلم.

طاليس-الانتقال من الأسطورة الى العلم

نظرية طاليس كانت تقول: "كل شيء ناتج من الماء، كل شيء نشأ من الماء ويرجع في النهاية إلى الماء". قد يقول البعض إن طاليس لم يأتِ بجديد، حيث ظهرت قبله مفاهيم مشابهة. كتب أرسطو في هذا الصدد قائلاً: "يعتقد البعض أن البشر القدماء الذين عاشوا قبل جيلنا كانوا ينظرون إلى الطبيعة من نفس هذه الزاوية؛ فقد كانوا يعتقدون أن أوكيانوس وتيثيدا هما أبوان لكل شيء في هذا العالم."

لكن هناك فرق أساسي بين ما قدمه طاليس وما قدمه أسلافه. طاليس تحدث عن الماء كعنصر طبيعي، بينما تحدث السابقون عن آلهة الماء. طاليس ركّز على مفهوم واقعي بينما تحدث أسلافه عن شخصيات خيالية. الحديث عن أوكيانوس وتيثيدا لم يكن علميًا، بل كان أسطوريًا. لذلك، كان نشوء العلم يتطلب انقلابًا في طريقة التفكير. كان من الضروري التحرر من الاحتياجات العملية وأسلوب التفكير الأسطوري، وهذا الانقلاب قام به الفلاسفة الإيونيون، وعلى رأسهم طاليس.

طاليس تميز بتفسير الظواهر بطريقة مختلفة عن مؤلفي الأساطير. فقد اهتم بنشأة العالم، ولم يكن يسأل "من صنع العالم؟"، بل كان يسأل "كيف بدأت نشأة العالم؟".

طاليس وأول قضيه فلسفية

وعليه، يمكننا القول بأن مسألة بداية العالم كانت أول قضية فلسفية. ولم يكن في ذلك غرابة، فقد كان الناس البدائيون، الذين لم يعرفوا النقد العلمي، يعتقدون أنهم يرون كيفية نشوء العالم، وكانوا يطلبون من الحكماء أن يخبرونهم كيف كان العالم في البداية. وهكذا، قال طاليس إن مصدر العالم ونهايته هو الماء.

كانت بداية الفلسفة مختلفة عن الفهم الأسطوري لكنها قريبة منه في فهمها للقضايا وشرحها. لم تظهر عبقرية الإغريق في هذه المرحلة بصورة واضحة، إذ كان الإغريق حتى ذلك الحين يشبهون الشعوب الأخرى في نظرتهم لأمور العالم.

ركزت الفلسفة الطبيعية الأولى، التي تميز بها طاليس ومن تبعه، على مسألة بداية العالم. السؤال الرئيسي بالنسبة لهم كان: "كيف بدأت الطبيعة؟"، وكان هذا يعني بصيغة أخرى: "ما هو النوع الأول من الأجسام التي تطورت منها الطبيعة؟" تطور هذا السؤال في النهاية إلى: "ما هي طبيعة المادة الأولى؟"

في الواقع، لم يكن الفلاسفة الأوائل يعرفون مصطلح "المادة" بالشكل الذي استخدمه الإغريق في المراحل اللاحقة. كانوا يرون المادة كأحد مكونات الجسم، تختلف عن مكونات أخرى مثل الشكل أو القوة. لم يفكروا في المادة كشيء غير محدد المعالم، حيث كان التفريق بين المادة والشكل مهمة للأجيال القادمة من الفلاسفة.

كما لم يدركوا أن المادة تحتاج إلى قوة خارجية لكي تتحرك. هذا التمييز بين القوة والمادة كان أيضًا من مهام الفلاسفة اللاحقين. فمفاهيم الفلاسفة الأوائل كانت تخلو من التجريد والتنوع. لم يتخيلوا وجود قوة منفصلة عن المادة؛ بل بالعكس، اعتقدوا أن القدرة على الحركة هي خاصية رئيسية للمادة. فهموا القدرة على الحركة بصورة روحانية، بوصفها مظهرًا للحياة والروح. كان طاليس يعتقد أن كل شيء يتغذى ويتحرك. عدم التمييز بين المادة والقوة والروح كان سمة مميزة للمجموعة الأولى من الفلاسفة الإغريق، ولذلك أُطلق عليهم اسم "فلاسفة المادة والحياة".

يعتبر بعض المؤرخين هؤلاء الفلاسفة ماديين، لأنهم لم يعرفوا سوى المادة، لكنهم كانوا ماديين بدون صورة واضحة للمادة، وكانوا ينسبون للمادة خواص روحانية، مؤمنين بوجود نشاط الروح في الحياة.

لكن لماذا اعتقد طاليس أن الماء، وليس أي عنصر آخر، هو بداية الطبيعة؟ قد يكون ذلك متأثرًا بالأساطير التي ربطت أوكيانوس وتيثيدا بالماء. ومع ذلك، أعطى طاليس أسبابًا أخرى لمفهومه، فقد استند إلى ملاحظته لبعض الظواهر، مثل أن كل شيء رطب هو حي، وكل شيء يابس يموت، وأن الجنين دائمًا ما يكون رطبًا ولينًا، وأن الطعام يحتوي على عصارة. من هنا استنتج طاليس أن الماء هو الذي يعطي الحياة، وأنه يحتوي على الخصائص الضرورية لتطوير الطبيعة بأكملها. كانت هذه أول محاولة لتفسير الظواهر الطبيعية.

أهمية طاليس

وكانت هذه أول محاولة لتفسير الظواهر بصورة تشبه العلم. لم يكن لأفكار طاليس صدى كبير في البداية، فقد برزت أفكار أخرى تُرجع أصل العالم إلى مصادر متنوعة، ولكل منها أنصار. قال أحد أتباع طاليس إن الصورة الأساسية للمادة هي النار، وقال آخر إنها الهواء، لكنهم استخدموا نفس الأسلوب الذي اعتمده طاليس في طرح القضايا، ولذلك اعتبروا من أتباعه.

كان أنكسماندرس تلميذًا لطاليس، وتتلمذ عليه كل من أنكسمينس وهيراقليطس، ولهذا السبب اعتبر الإغريق طاليس مؤسسًا للفلسفة. الشيء الأساسي الذي قدمه طاليس هو طرح السؤال الفلسفي، وهو أمر أكثر أهمية بكثير من الإجابة التي قدمها. لذلك، ليس من الضروري أن يكون أول فيلسوف في العالم عبقريًا، بل يكفي أنه استمد مهارته من ثقافات الشعوب الأخرى.

لم يتطلب تحويل المهارة إلى فلسفة عقلًا جبارًا، لأن العقل البشري كان جاهزًا لاستقبال الفلسفة. لم تكن هذه الخطوة بحاجة إلى قفزة كبرى، بل كانت تكفي خطوة صغيرة واثقة لتحويل المهارات القديمة إلى تفكير فلسفي جديد.

google-playkhamsatmostaqltradent