في تصور الكثير من الناس، قد تبدو الفلسفة شيئًا صعبًا إدراكه وفهمه. يراها البعض شيئًا يفوق العلم وأكثر تعقيدًا منه. يتم إعادة تعريف الفلسفة تقريبًا في كل عصر، وليس بشكل واحد ثابت. ومع ذلك، سنوضح فيما يلي معنى الفلسفة وفعل التفلسف والفيلسوف بشكل مبسط.
معنى الفلسفة |
قبل أن نوضح معنى الفلسفة، لنوضح معنى مفهوم الفكر أولًا، وبعد ذلك يتيسر لنا فهم الفلسفة بشكل عميق وبأسلوب سهل في نفس الوقت، ثم نقارنها بأنماط التفكير الأخرى كالخرافات والأساطير، وبعد ذلك نقارنها بالعلم لتفهم بشكل أكبر.
ما هو التفكير
حتى نفهم معنى الفلسفة، يجب أن نفهم التفكير الفلسفي، وحتى نفهم هذا الأخير، يجب أن نوضح عملية التفكير عند الإنسان، أي آلية التفكير والقوى المسيطرة عليه، ثم نشرح أنواع التفكير، والتي يكون التفكير الفلسفي أحد أنواعها.
- الانسان كائن مفكر
الإنسان هو الكائن المفكر الوحيد بين بقية المخلوقات، أو على الأقل يفكر بمستوى أعلى بكثير منها، لذلك عُرف الإنسان بأنه كائن عاقل. فالإنسان يختلف عن بقية الكائنات الحية بهذه الصفة الجوهرية المميزة له: أي أنه كائن عاقل، وفعل العقل هو التفكير. استطاع الإنسان بالفكر أن يسيطر على بقية الكائنات الأخرى، وفهم الطبيعة وقوانينها، وسيطر على البيئة وأنتج مظاهر حضارته ومدنيته.
- ما هو الفكر
الفكر يختلف عن الإحساس أو الإدراك، هو نشاط ذهني أو عقلي، ويتجاوز الإحساس والإدراك إلى الأفكار المجردة. والمعنى المحدد للفكر هو كل تدفق للأفكار تستثيره وتحركه مشكلة أو موضوع ما أو مسألة تتطلب الحل. يعني أن الفكر هو نشاط ذهني أو توجيه الذهن في مشكلة ما (موضوع ما).
- مكونات عملية التفكير
أي أن عملية التفكير تتكون من ذات مفكرة وموضوع (مشكلة) تؤدي إلى نتيجة ما تمثل الفكرة. هذا يعني أن هناك شخصًا يفكر في موضوع ما، يتوصل من خلال التفكير إلى فكرة أو نتيجة عن المشكلة التي فكر بها، أي لدينا ذات مفكرة وموضوع وفكرة (نتيجة).
- أنواع التفكير البشري
لو نظرنا إلى التاريخ البشري، لوجدنا أنواعًا مختلفة من الفكر، حتى إن هناك مراحل للفكر البشري، مثل الخرافات والأساطير والفلسفة. والسؤال الأهم هنا، لماذا توجد أنواع مختلفة من الفكر وليس نوع واحد، ما دام أن آلية التفكير أو العقل البشري واحدة عند جميع البشر؟
صحيح أن عملية التفكير واحدة، حيث هي ببساطة عبارة عن تجريد المدخلات الحسية للإنسان بشكل مفاهيم ومصطلحات، ثم محاولة إيجاد معنى مطلق لها، عن طريق إعادة التأمل في هذه الأفكار المجردة.
إلا أن رحلة الإنسان باتجاه إيجاد المعنى المطلق للمفاهيم والمصطلحات (التي تمثل أفكارًا مجردة استخلصها الإنسان من المدخلات الحسية) لم تكن بهذه السرعة وبشكل مباشر بواسطة التأمل العقلاني المنطقي، بل سيق ذلك تحت سيطرة قوة أخرى كالمشاعر، وبالأخص مشاعر الخوف، على عملية التأمل هذه، ثم بعد ذلك قوة أخرى، وهكذا حتى وصلنا إلى التفكير العقلاني.
بالتالي، إن الفكر الذي هو المحصلة لعملية التفكير، يختلف باختلاف القوة المسيطرة (المشاعر، الخيال، المنطق) على آلية التفكير. فالفكر المستخلص من سيطرة المشاعر على التأمل، يختلف عن الفكر المستخلص من التأمل بشكل منطقي وعقلاني، وهذا هو السبب في اختلاف أنواع الفكر عبر مراحل التاريخ البشري عن بعضها البعض.
هذا يعني أنه في عملية التفكير هناك:
- ذات مفكرة (إنسان يتأمل الأفكار المجردة المستخلصة من المدخلات الحسية، محاولًا إيجاد معنى لها، وتأمله هذا تارة يخضع لمشاعره، ومرة أخرى لخياله، وفي مرة أخرى يخضع للمنطق والعقلانية).
- موضوع التأمل (الواقع الخارجي) والموضوع أما عام مطلق مثلًا الوجود بالمعنى الأعم، أو أحد تفصيلات الوجود مثل أي عناصر من عناصره كالأكسجين أو النيتروجين أو النبات أو الحيوان.
فنوع الفكر (الخرافات، الأساطير، الفلسفة، العلم) تحديده يتوقف على نوعية القوة المسيطرة على عملية التفكير أولًا، وعلى الموضوع الخاضع لعملية التفكير.
- الخرافات : هي عبارة عن تأمل في الوجود وتفصيلاته، مع خضوع هذا التأمل لقوة المشاعر. في السابق، الإنسان البدائي أدهشته ظواهر الوجود المختلفة، وأصابته بالرعب والخوف، فسيطرت هذه المشاعر على عملية تفكيره، ففسر ظواهر الوجود سواء ما كان جزئيًا منها أو مطلقًا تحت سلطة هذه المشاعر، لذلك فسر الوجود وظواهره تفسيرًا خرافيًا.
- الاساطير: هي عبارة عن تأمل في الوجود وتفصيلاته، مع خضوع هذا التأمل لقوة الخيال. لم تعد تفسيرات التفكير الخرافي تملأ قناعات الإنسان بمرور الزمن، فانتقل من الخرافة بعد تخلصه من سطوة المشاعر إلى سيطرة قوة أخرى، هي خياله، ففسر ظواهر الوجود سواء ما كان جزئيًا منها أو مطلقًا تحت سلطة هذه القوة، لذلك فسر الوجود وظواهره تفسيرًا أسطوريًا.
- الفلسفة : إن الحالة الطبيعية للوجود، بما فيها الإنسان وقواه ومنها قوة الفكر، إنها تتجه نحو التطور. ما كان ملائمًا بالأمس لم يعد ملائمًا اليوم. فلم يعد التفسير الأسطوري للوجود وما فيه يملي قناعات الإنسان، وتدريجيًا بدأ الإنسان في التخلص من سلطة خياله باتجاه التفكير العقلاني المنطقي، فأنتج الفلسفة التي من خلالها فسر الوجود وما فيه من ظواهر، بأسلوب يغلب عليه المنطق والعقلانية.
ما يميز أنماط التفكير الثلاث هذه أنها اختلفت في القوة المسيطرة على آلية التفكير وتشابهت في الموضوع. فلم يكن هناك شيء اسمه العلم يوازيها ويأخذ منها جزءًا من مواضيعها، فكل نمط من أنماط التفكير هذه حاول الإنسان تفسير كل الوجود وما فيه.
ولكن بعد مرحلة الفلسفة، التي كانت قد سميت في السابق بأم العلوم، لأنها كانت في السابق تحل محل كل العلوم، بدأت مرحلة جديدة من الفكر، وهي الفكر العلمي.
حيث توسعت المواضيع وبدأت تخصصات جديدة في الظهور، نتيجة للتطور التقني والتكنولوجي للإنسان. فظهرت العلوم المختلفة وتخصص كل فرع منها في حقل من حقول المعرفة، تاركًا للفلسفة مجالًا ضيقًا ومباحث محدودة، أهمها مبحث الوجود، المعرفة، القيم، بالإضافة إلى مباحث ثانوية أخرى مثل فلسفة الدين، التاريخ، اللغة، القانون.
بعد هذا الشرح المفصل، صار واضحًا معنى التفكير الفلسفي: هو نمط كأي نمط من أنماط التفكير، ولكنه يتميز عنها بأنه تفكير عقلاني ومنطقي، وإن موضوعه هو الوجود بالمعنى المطلق والأعم، تاركًا للعلم الخوض في تفصيلات الوجود، وكل علم حسب اختصاصه. الآن أصبح من الممكن تصور معنى الفلسفة.
-
معنى الفلسفة
صار واضحًا أن الفلسفة هي نشاط ذهني أيضًا، أي هي نمط فكري أيضًا، كأي عملية فكرية أخرى، لكنها تختلف عن الأفكار الأخرى بأنها نشاط ذهني في المسائل (المشاكل) الوجودية الأكثر شمولًا.
فهي لا تختص بالمسائل الشخصية لشخص ما، بل تختص بالإنسان بشكل عام، ولا تختص في مادة من مواد الوجود. فلا يهمها تركيب الماء ولا التضاريس مثلًا، ولا شيء آخر من هذا القبيل.
بل تبحث في الوجود بشكل أعم، بالإضافة إلى ذلك تبحث عن القيم (قيم الأشياء) بالمعنى الكلي، فمثلًا تبحث عن معنى الخير، ليس الخير الشخصي لشخص ما بل معنى الخير بشكل مطلق.
بالتالي، عندما قلنا إن عملية التفكير تتكون من ذات مفكرة وموضوع ما (مشكلة) تؤدي إلى نتيجة، فمكونات عملية التفلسف هي ذات فكرة وموضوع ما ونتيجة أيضًا.
ولكن أي موضوع وأي مشكلة؟ إنها المواضيع الوجودية الأعم والأكثر شمولية، والنتيجة المستخلصة (الأفكار) من عملية التفكير هذه (فعل التفلسف) هي ما يسمى فلسفة، ومن يقوم بفعل التفلسف هذا هو من يسمى فيلسوف.
-
اختلاف الفلسفة عن العلم
العلم يتميز عن الفلسفة بأنه له منهج وموضوع محدد مختص به وليس عامًا، أما الفلسفة فهي نشاط أكثر منها علمًا كما قلنا سابقًا.
ويتحقق معنى الفلسفة بشكل كامل في الممارسة. لأرسطو عبارة شهيرة يقول فيها: "لا يمكن لأحد أن لا يتفلسف"، حتى أولئك الذين يعادون الفلسفة ويجفونها، إنما يفعلون ذلك بضرب من ضروب التفلسف. فلكي تبرر موقفك المعادي للفلسفة، سترى نفسك سوف تتفلسف!
فإذا كان موضوع الفلسفة هو الميتافيزيقا، والتي تعني ما بعد الطبيعة، أي المواضيع المجردة والخاضعة للتأمل مثل: الوجود، الفضيلة، الحرية، فإن العلم هو الفيزيقا، أي المواضيع المحسوسة مثل: المادة والجماد.
بالإضافة إلى أن العلم مختص، فكل علم من العلوم مختص بجانب معين، فهناك علم الكيمياء والفيزياء والكون وغيرها. ومواضيع العلوم خاضعة للتجربة، لأنها مادية محسوسة، وهذا عكس الفلسفة التي تتعامل مع المواد غير المحسوسة وفي نفس الوقت أكثر شمولية.
-
تعريف الفلسفة لغة و أصطلاحًا
لغة: معنى كلمة فلسفة أو فيلوسوفي مركبة من جزأين: فيلو + صوفيا. الجزء الأول يعني الحب أو العشق، والجزء الثاني صوفيا يعني الحكمة باللغة اليونانية.
يبدو أن الفيلسوف سقراط، المتوفى سنة 399 ق.م، هو أول من استخدم هذه اللفظة أو هذا المصطلح كرد فعل يترجم به عن تواضعه قبالة الغطرسة والغرور الذي كان يطبع مسلك السفسطائيين.
كلمة فيلسوف يمكن أن تقابل كلمة سفسطائي، والتي تعني الحكيم باللغة اليونانية، لأن السفسطائيين كانوا يدعون الحكمة لأنفسهم، فجاء سقراط ليقول بكل تواضع: "أنا لست حكيمًا، قصارى أنني محب للحكمة وراغب فيها".
اصطلاحًا: يختلف تعريف الفلسفة اصطلاحًا بين مذاهب الفلسفة المختلفة، بل إنه يختلف من فيلسوف لآخر. مثلًا، يعرف سقراط الفلسفة بأنها بحث الإنسان في مشاكل وقضايا حياته، ودراسة الأخلاق والسياسة. أما أفلاطون فيعرفها على أنها أسلوب في العيش، وهي ليست فقط آلية من آليات التأمل والتفكير بالنسبة للإنسان.
الخاتمة: فالفلسفة هي عملية تفكير مثل أي عملية تفكير أخرى، يسلط فيها النشاط الذهني على موضوع ما، حيث يتأمل الإنسان ويفكر فيه بشكل نظري. ومثلما ذكرنا أعلاه، ما يميز التفكير الفلسفي هو أنه تفكير في مواضيع الوجود الأعم والأكثر شمولية.