recent
أهم الموضوعات

مراحل الفلسفة القديمة

مراحل الفلسفة القديمة

مرت الفلسفة القديمة منذ نشأتها حتى آخر فتراتها بمراحل عديدة، ظهرت خلالها آراء ومذاهب مختلفة تمثل مدارس فلسفية ذات اتجاهات متعددة. كما تميزت كل مرحلة من مراحل الفلسفة القديمة عن الأخرى بموضوعها الذي يمثل محور البحث الفلسفي.

مراحل الفلسفة القديمة
مراحل الفلسفة القديمة

يمكن تقسيم مراحل الفلسفة القديمة إلى خمس مراحل، وكما يلي: الفلسفة ما قبل سقراط (حوالي القرن السادس قبل الميلاد)، فلسفة سقراط (469-399 قبل الميلاد)، فلسفة أفلاطون (427-347 قبل الميلاد) وأرسطو (384-322 قبل الميلاد)، الفلسفة الهلنستية (حوالي 323-30 قبل الميلاد)، الفلسفة الرومانية (حوالي 30 قبل الميلاد - 500 ميلادي) .

المرحلة السابقة لسقراط (القرن السابع والسادس قبل الميلاد)

قامت الحركة الفلسفية الأولى عند اليونان، على أكتاف أفراد من عائلات كانت لها مراكز ممتازة في المجتمع اليوناني، لذلك كان هؤلاء الأفراد يشتغلون بالفلسفة إلى جانب ممارستهم للنشاط السياسي. ومن ناحية أخرى، نجد أن الفلسفة في أول عهدها كانت مرتبطة بالعلم، فلم يكن هناك حد فاصل بين التأمل الفلسفي والبحث التجريبي، وكانت الفلسفة تضم العلوم المعروفة في ذلك الوقت.

الفلاسفة في هذه المرحلة من مراحل الفلسفة القديمة اهتموا بالظواهر الطبيعية قبل أن يحاولوا تفسير أدوات إدراكنا لهذه الظواهر – أي قبل أن يتناولوا بالبحث الإدراك الإنساني ومشكلة المعرفة.

تساءلوا أولاً عن حقيقة المبدأ الأول للأشياء، وتمثل هذا الاتجاه في المدرسة الملطية عند طاليس وأنكسمندريس وأنكسيمانس. وتجدّدت هذه المحاولة بأسلوب رياضي عند الفيثاغوريين، ولكن البحث عن المبدأ الأول أثار مشكلات دقيقة عن الوجود واللاوجود، والثبات والعدم، والصيرورة والحركة، فتصدى هرقليطس والمدرسة الإيلية لمناقشتها.

أما الطبيعيون المتأخرون فقد حاولوا التوفيق بين هذه الآراء وآراء الطبيعيين الأوائل في البحث عن المبدأ الأول للأشياء. وبعد أن تعمّقوا في فكرة الصيرورة وأدركوا أن هناك جواهر أزلية هي أصل الموجودات، حاولوا أن يفسروا اتصال هذه الجواهر وانفصالها وتكاثفها وتخلخلها، إلى غير ذلك من محاولات مختلفة، تمثلت في محاولات كل من أمبادوقليس وديمقريطس وأنكساغوراس.

ومما يسترعي النظر في مواقف هذه المدارس أنها تناولت المادة على اعتبار أنها تتضمن في ذاتها الحياة، وأن هذه المدارس لم تحاول التعرض لمشكلة الإدراك الحسي وعلاقته بالفكر إلا في وقت متأخر عند أنكساغوراس.

أما مدارس هذه المرحلة فهي

أولًا : المدرسة الملطية ونشأة العلم الطبيعي

هي واحدة من أقدم المدارس الفلسفية في اليونان القديمة، وظهرت في مدينة ميليتوس الواقعة في منطقة إيونيا (تركيا الحديثة) في القرن السادس قبل الميلاد.

تُعتبر هذه المدرسة بداية التفكير الفلسفي والعلمي في العالم الغربي، حيث حاول فلاسفتها تفسير أصل الكون والعالم الطبيعي بعيدًا عن الأساطير الدينية. ركزت المدرسة الملطية على البحث عن "العنصر الأساسي" أو "العناصر" التي يتكون منها الكون.

أبرز الفلاسفة في المدرسة الملطية:
  1. طاليس: يُعتبر المؤسس الفعلي للمدرسة الملطية. اعتقد أن الماء هو العنصر الأساسي الذي يتكون منه كل شيء في العالم.

  2. أناكسيمندر: تلميذ طاليس، خالف أستاذه ورأى أن أصل الكون هو الأبيرون أو "اللامتناهي"، وهو عنصر غير محدد، لا نهائي وغير مادي.

  3. أناكسيمينس: تلميذ آخر لطاليس، اقترح أن الهواء هو العنصر الأساسي الذي يتكون منه العالم، وأن التغيرات تحدث من خلال تكاثف الهواء وتخلخله.

أهمية المدرسة الملطية:

  • تعتبر المدرسة الملطية من أولى المدارس التي تبنت منهجًا علميًا لفهم الكون، حيث حاولت تقديم تفسيرات عقلانية للطبيعة بعيدًا عن التفسيرات الأسطورية.

  • أسهمت في وضع الأسس للفلسفة الطبيعية التي أثرت في العديد من الفلاسفة اللاحقين.
ثانيًا : المدرسة الفيثاغورية ونشأة العلم الرياضي

هي إحدى المدارس الفلسفية البارزة في اليونان القديمة، وقد أسسها فيثاغورس من ساموس في القرن السادس قبل الميلاد. كانت المدرسة الفيثاغورية تجمع بين الرياضيات والفلسفة، واهتمت بتفسير الكون من خلال الأرقام والعلاقات الرياضية.

أبرز سمات المدرسة الفيثاغورية:
  1. الرياضيات كعناصر أساسية: اعتبرت المدرسة الفيثاغورية أن الأرقام والمفاهيم الرياضية هي الأساس الذي تقوم عليه كل الأشياء في الكون. فالأرقام، بالنسبة لهم، لم تكن مجرد أدوات للقياس، بل كانت تعبيرًا عن القوانين الكونية.

  2. نظرية الأعداد: قدم الفيثاغوريون مفهوم الأعداد المثالية والأعداد الأولية، واهتموا بدراسة الأعداد وكيفية تأثيرها على العالم الطبيعي.

  3. نظرية الأشكال: اعتقدوا أن الأشكال الهندسية، مثل المثلثات والدوائر، لها دور في فهم بنية الكون. على سبيل المثال، كانوا يعتقدون أن الكون يمكن تفسيره من خلال الأشكال الهندسية المثالية.

  4. المعتقدات الفلسفية: كان لدى الفيثاغوريين أيضًا معتقدات ميتافيزيقية، مثل التناسخ أو تقمص الأرواح، حيث اعتبروا أن الروح خالدة وتنتقل من جسد إلى آخر بعد الموت.

  5. الطريقة التعليمية: كانوا يتمتعون بنظام تعليمي صارم ومجتمعًا مغلقًا، حيث اعتُبرت المعرفة السرية ويجب على الأعضاء اتباع قواعد صارمة.

  6. الموسيقى والرياضيات: اهتم الفيثاغوريون بالعلاقة بين الأعداد والموسيقى. فقد اكتشفوا أن النسب الرياضية يمكن أن تُطبق على الأوتار الموسيقية لإنتاج نغمات متناغمة.

تأثير المدرسة:

أثرت المدرسة الفيثاغورية بشكل كبير على الفلسفة والعلم الغربي، وخاصة في مجال الرياضيات، حيث قدمت مبادئ أساسية ما زالت تستخدم حتى اليوم. كما أنها أسهمت في تطور الفلسفة الطبيعية، وساعدت في تشكيل فهمنا للكون من خلال الأرقام والهندسة.


ثالثًا : المدرسة الإيلية وهرقليطس نشأة مابعد الطبيعة

تتضح أسس مدرسة بارمنيدس إذا رجعنا إلى فلسفة كل من اكسانوفان وهرقليطس....وذلك أننا نجد في فلسفة بارمنيدس استمرارًا وتطورًا لموقف إكسانوفان في كيفية صدور الكثرة عن الوحدة، وفي الثبات والحركة، والوجود والصيرورة، هذه المشاكل التي تتناولها المدرسة الايلية بالتفصيل، وتتخطى بذلك مشكلة المدرسة الايونية التي كانت تبحث عن العناصر الاولى للوجود المادي .

وقد كانت فلسفة بارمنيدس رد فعل معارض لموقف هرقليطس في التغير الدائم، ولكن طبيعة المشاكل التي يعرض لها هرقليطس عن الوجود والتغير جعلته يقترب إلى حد كبير من الطابع العام للمدرسة الايلية، كما يقترب في نفس الوقت من المدرسة الايونية لقوله بأن النار هي المقوم المادي المحدد للوجود .

أبرز الفلاسفة في المدرسة الأيلية:

  1. هرقليطس: قد أشار بعض المؤرخين الى ان هرقليطس كان فيثاغوري المذهب قبل أن ينشئ مذهبه الخاص، كان يرئ أن الاشياء في تغير مستمر، وأن القانون العام الذي ينظم الوجود هو التغير وعدم الثبات والتجدد المستمر، فكل شي في سيلان مستمر ولا يوجد شي باق على الاطلاق، وهو صاحب المقولة الشهيرة "لا يمكن أن تعبر النهر مرتين" .
  2. اكسانوفان : ترجع نسبة المدرسة هذه الى أليا (1) في جنوب أيطاليا، ويقال أن مؤسسها هو إكسانوفان، يذهب الى القول بوحدة الاشياء جميعًا, وهو يطلق على هذه الوحدة الساكنة أسم "الألوهية" .
  3. بارمنيدس : ولكن بارمنيدس يعد المؤسس الحقيق لهذه المدرسة، وأذا كان هرقليطس قد رأى أن الاشياء في حركة دائمة وأن الاضداد تتحد لتؤلف الإنسجام في الكثرة, فأننا نرئ على العكس من ذلك أن بارمنيدس كان يقف على النقيض من هذه الاراء، ينفي بارمنيدس ومدرسته الكثرة والتغير ويقول بالثبات والوحدة، ويذهب الى ان وراء التغيرات الظاهرية توجد ضرورة وقانون ثابت .
  4. زينون الايلي: تتلمذ على بارمنيدس، ويعتبر زينون ممثلًا لوجهة النظر النقدية للمذهب الإيلي، فقد تصدى لمذهب الوحدة والسكون، وقد ذكر عنه أرسطوانه مؤسس فن الجدل، أي الاستدلال الذي يستند الى مبادئ مستمدة من مسلمات الخصوم .
  5. مليسوس: ولد في ساموس من أعمال أيونية، ثم التقى بأستاذه بارمنيدس، وكان يصغر زينون بحوالي اثنى عشر عامًا، ولم يفعل مثل زينون في التصدي للفيثاغوريين، بل يمم مليسوس وجهته شطر مواطنيه من الطبيعيين الاوائل، فأنتقدهم لأنهم يقولون بالتغير، ويعترفون به كما سيبدوا للحس، والحس كاذب .
رابعًا: مذاهب الكثرة الطبيعية-محاولات التوفيق

بعد أن أرجع الطبيعيون الأوائل الوجود إلى مبدأ واحد، سواء كان الماء أم الهواء أو النار، واستخدام الفيثاغوريين العدد لتفسير الوجود وقولهم بالكثرة، وسلموا بالحركة والتغير، ثم المعارضة الشديدة التي أبداها الإيليون لهذين الموقفين القائلين بالكثرة والحركة، ودفاعهم الجدلي عن الوجود الواحد الساكن.

ظهر فلاسفة ثلاثة عاشوا في فترة واحدة تقريبًا، وتناولوا المشكلة الطبيعية، وهم أنبادوقلس وأنكساغوراس وديمقريطس. حاول هؤلاء الفلاسفة الثلاثة التوفيق بين الآراء المتعارضة؛ فقد سلم هؤلاء الثلاثة بالحركة والتغير لا على نسق هرقليطس القائل بالتغير المستمر، بل أحلوا محله "الاتصال والانفصال" و"التخلخل والتكاثف".

وكذلك سلموا بالوجود الثابت، ولكن ليس على طريقة بارمنيدس، بل اكتفوا بالقول بأن ثمة أصولًا ثابتة في الوجود، هي أصل الموجودات النوعية، وليست هي عناصر الطبيعيين الأوائل، بل هي أصول متكثرة.

  • أنبادوقلس (490-340 ق.م): ولد في أغريغنتا من أعمال صقلية، مذهبه الفلسفي هو محاولة للتوفيق بين آراء هرقليطس في التغير المستمر وآراء بارمنيدس في الثبات الدائم، فقد رأى أن هناك جانبًا من الحقيقة عند كل من هذين الفيلسوفين.
  • أنكساغوراس (500-428 ق.م): ولد في أقلازومين بالقرب من أزمير في آسيا الصغرى، ولكنه اختار أثينا مقرًا له، فكان أول فيلسوف يستقر في هذه المدينة سنة 480 أو 479 ق.م، وكان مذهبه الفلسفي على العكس من أنبادوقلس مبتعدًا عن أي اتجاه صوفي، فقد اتبع طريقة التفسير العقلي المحض.
  • الذريون - لوقيبوس/ ديمقريطس: يعد موقف الذريين ثالث مذاهب التوفيق بين مذهب كل من هرقليطس وبارمنيدس في الوجود والصيرورة. ومؤسس هذه المدرسة هو لوقيبوس الملطي، وهو واضع أصول المذهب الذري.
أما ديمقريطس فولد في أبديرا من أعمال تراقيا، وكان معاصرًا لسقراط وتلميذًا للوقيبوس وكذلك لفيلولاوس الفيثاغوري. وقيل إنه زار مصر، والمعروف عنه أنه أمضى معظم حياته في الدراسة والكتابة والتعليم في المدرسة التي أنشأها في أبديرا مسقط رأسه.

مرحلة سقراط والسفسطائيين (القرن الخامس قبل الميلاد)

أولًا: السفسطائيين

لاحظنا في المقال أعلاه، أن كل الفلاسفة السابقين منذ طاليس، كانوا يتجهون إلى دراسة الطبيعة وظواهرها، محاولين تفسيرها تفسيرًا معقولًا، مفترضين دائمًا أن هناك قانونًا يكمن وراء الظواهر، وينبث في الوجود منظمًا للكون بأسره، ولكن هذا التيار في الفكر الطبيعي كان قد وصل إلى مداه في المدرسة الطبيعية المتأخرة.

فكان لابد للفكر بعد ذلك أن يتريث ليراجع أحكامه في القضايا التي شغلته، وليمحص تلك المعارف التي توصل إليها والتي أضافتها المدارس الفلسفية منذ عهد طاليس.

وقد تم ذلك بالفعل، إذ ظهر تيار جديد في الفكر عند اليونان يمثل المرحلة الثانية من مراحل الفلسفة القديمة يؤدي هذه الوظيفة، وهذا التحول في موضوع الفلسفة، أي من البحث في الطبيعة إلى محاولة فحص المعارف التي توصل إليها، يمثل بمثابة ظهور نزعة نقدية للمعرفة والفكر، وهذه النزعة قد ترأسها السفسطائيون عن جدارة.

على أن هذا الاتجاه الجديد، لا يرجع إلى عامل فكري فحسب، بل يرجع إلى عدة عوامل سياسية واجتماعية نشأت في المجتمع اليوناني في ذلك العهد، فقد كانت الديمقراطية الأثينية قد بلغت أزهى عصورها، وكان لابد للسياسي الديمقراطي من أن يتصف بالقدرة على الجدل والمناقشة، ومنازلة الخصوم، والدفاع عن الآراء صحيحها وكاذبها.

وأحس السفسطائيون أنهم أجدر الناس بتعليم هذه الصناعة، فتولوا مهمة تدريب الشباب على الجدل لإعدادهم للعمل السياسي، وذلك نظير أجور تختلف بحسب أصل المتعلم وثرائه.

وكذلك كان للحروب المتعاقبة - حروب داخلية وحروب بين اليونان والفرس - كان لذلك أثر كبير في زعزعة ثقة المواطنين بمفهوم "الدولة الإلهية" وبالإضافة إلى هذا كان اليونانيون قد اتجهوا إلى الاغتراب وكثرة الترحال، ورجع الكثيرون منهم من أسفارهم يصفون عادات الدول الأخرى وتقاليدها وأديانها، وقد كانوا قبل ذلك يعتزون بتقاليدهم ويعتقدون أنه لم يخلق على وجه الأرض من يضاهيهم علمًا ودينًا وتقاليدًا.

فهم كانوا يعتقدون هم الأحرار وغيرهم العبيد، ولكن حينما أتيحت لهم الفرصة للاطلاع على الأمم الأخرى، وحضاراتها وعلومها، اتجهت أنظارهم إلى عاداتهم وتقاليدهم، فأخذوا يعملون فيها المقارنة والموازنة، ومن ثم تكونت لديهم ملكة النقد، وكذلك نشأ علم الحضارات وعلم التاريخ.

ونشأ عن النظرة الواسعة للحضارة الإنسانية تيار فكري يلتقي مع ما نعرفه الآن في علم الاجتماع المعاصر، فقد قال هؤلاء كالااجتماعيين المعاصرين بنسبية النظم والتقاليد والعادات والأديان، فكل نظام وكل تقليد هو حق وخير في دائرة المجتمع الذي يطبق فيه فقط.

ولكنه ليس حقًا أو خيرًا بالنسبة لسائر المجتمعات الأخرى، وكذلك الدين، فالدين لا ينبع من مصدر إلهي، ومن ثم فهو ليس نظامًا مطلقًا، بل هو فكرة تعاقدية تظهر حسب حاجة المجتمع وتخضع لمراحل تطوره، وإذن هاجموا نظرية الدين المطلق وأحلوا محلها نسبية الدين بالقياس إلى المجتمع.

وسنرى أن السفسطائيين سيتفقون مع سقراط معارضهم الأكبر من حيث إنهم يتجهون مثله إلى دراسة الإنسان، ويركزون اهتمامهم على الحياة الإنسانية، ولكنهم يختلفون عن سقراط في أنهم عالجوا الموضوع من ناحية خاصة تقوم على افتراض النسبية في المعرفة، أما سقراط فقد وضع التعريفات، وأقام الكلي، ومن ثم فقد أثبت الصحة المطلقة للمعرفة الإنسانية.

بدأ السفسطائيون منهجهم بالتشكيك في المعارف الحسية، وفي موضوعات الحس فهم يرون أن الحس خادع إذ أنه يصور لنا الحق باطلًا والباطل حقًا، والمعرفة الحسية - وهي جل معرفتنا - لا يمكن الثقة بها ولا يمكن الاعتماد عليها في تكوين أي حكم عن العالم الخارجي، ومن ثم فقد انهار الطريق الأساسي للمعرفة الذي قامت على أساسه الفلسفات الطبيعية قبل عهد سقراط.

ونضيف إلى هذا أن هؤلاء السفسطائيون يختلفون على وجه الإجمال عن الفلاسفة الطبيعيين، فبينما نرى الطبيعيين يستدلون على الجزئي من مبدأ عام مفترض، نجد السفسطائيون لا يحاولون التعمق في تفسير الموجودات على هذا النحو، واستكناه وجودها حتى يصلوا إلى العلل الأولى للأشياء.

بل كان اهتمامهم موجهًا إلى التجارب العلمية، فحاولوا أن يجمعوا أكبر قدر من هذه التجارب والمعلومات عن فروع الحياة العملية المختلفة، وانتهوا من ذلك إلى وضع نتائج معينة عن نسبية المعرفة، وإمكانها أو عدم إمكانها، وكذلك عن تفسير نشأة الحضارات وقيامها وتقدمها، وأصل اللغة والدولة، وعلاقة الفرد بالمجتمع، وقد اتبعوا في كل ذلك منهجًا حسيًا استقرائيًا.

وقد رأينا كيف كان الفيلسوف الطبيعي يتجه إلى البحث عن الحقيقة لذاتها مستهدفًا تفسير الوجود تفسيرًا معقولًا بقطع النظر عما يمكن أن يحصل عليه هو من نفع مادي نتيجة لتفسيره هذا، أما السفسطائيون فإن تعاليمهم - على العكس من ذلك - كانت تستهدف سيطرة الفرد على الحياة وذلك لمنفعته الشخصية، إذ الغاية عندهم عملية نفعية بحتة.

وقد حاول السفسطائيون تحقيق غايتهم بطريقتين:

  1. تعليم الشباب.
  2. إلقاء المحاضرات العامة بطريقة مبسطة شعبية.

وكان السفسطائيون يوجهون أنظارهم إلى النبلاء من الشباب يعلمونهم الخطابة ووسائل التغلب السياسي والبراعة في منازلة الخصوم، وذلك لقاء أجور نقدية. ما أثار عليهم تهكم أفلاطون، وقد كان أفلاطون على ثراء عريض، ولذلك فلم يكن يتقاضى أجورًا على تعليم تلامذته.

وكان أفلاطون يرى أن العلم أسمى من أن يتقاضى عليه المعلم أجرًا، وكان الشباب يتلقون الخطابة والفلك والرياضيات والشعر وذلك إلى جانب المنطق الذي يؤهلهم لإفحام الخصوم لا للوصول إلى الحق فلم يكن يهمهم الدفاع عن الحق بقدر ما كانت تدفعهم الرغبة الخالصة في الانتصار على الخصم مهما يكن الثمن، وذلك عن طريق الغموض الذي يعترى اللغة أثناء الحوار، واستعمال هذا الغموض في التلاعب بالألفاظ.

أما نظام المحاضرات عندهم فقد كان يقوم - في الغالب - على عقد اجتماعات في منازل الأصدقاء يدفع كل من يؤمها أجرًا معينًا لسماع المحاضرات وتعلم الجدل، وكانوا أيضًا ينتهزون مناسبات الأعياد والاحتفالات ليعرضوا آراءهم وليظهروا براعتهم في فن الجدل.

ويبدو أنه قد كان لهذه النزعة السفسطائية تأثير بالغ على المجتمع اليوناني وكذلك الفكر اليوناني، فبعد أن كان الفرد مغمورًا في ظل نظام جماعي وجه السفسطائيون النظر إلى كيانه الفردي، وإلى ذاته، فغيروا بذلك مجرى الفكر الذي كان متجهًا على عهد الطبيعيين إلى التزام الموضوعية الكاملة، وأحل السفسطائيون محل هذه الموضوعية فكرة النسبية، ولاسيما في ميدان المعرفة والأخلاق.

وكذلك يرجع إليهم الفضل في القول بأن اللغة ذات أصل تعاقدي، وأن الدولة كذلك تعاقدية، فهي ليست إذن من صنع الآلهة، والدين كذلك لا يتضمن حقائق عليا مطلقة وغبية، بل هو نظام اجتماعي نشأ في المجتمع نتيجة لحاجات اجتماعية.

وكذلك جاء على لسانهم اعتبار القوانين والعادات والتقاليد نسبية أي أنها إذا كانت تصلح لشعب معين فإنها لن تستقيم في شعب آخر، ومعنى هذا أنها ليست ذات صحة مطلقة كما كان يعتقد الفلاسفة السابقون عليهم.

وأهم الفلاسفة السفسطائيين:

  • بروتاغوراس (481 - 411 ق.م): ولد في أبديرا، وهو القائل بأن الإنسان مقياس الأشياء جميعًا، ذلك لأنه هو الذي يحكم على الموجودات بأنها موجودة، وعلى غير الموجود منها بأنه غير موجود.
  • بروديكوس: كان من أتباع السفسطائي الكبير بروتاغوراس، وكان يقول بنسبية الأشياء، وأن الإنسان هو مقياس هذه الأشياء جميعها، وهو الدليل الوحيد على وجودها أو عدم وجودها.
  • جورجياس (483 - 375 ق.م): كان في مستهل حياته تلميذًا لأنبادوقلس، فوجه اهتمامه في بادئ الأمر إلى العلم الطبيعي، ولكنه حينما استمع إلى جدل زينون تشكك في مقولات العلم وفي مقولات الوجود على الإطلاق، فوضع كتابًا بعنوان "اللاوجود" ضمنه ثلاث قضايا رئيسية:
    1. لا يوجد شيء على الإطلاق.
    2. وحتى إن وجد أي شيء لا يمكن معرفته.
    3. وحتى إذا عرفت الشي فلا يمكن إيصال هذه المعرفة إلى الآخرين لأنها معرفة نسبية، لأن اللغة وهي وسيلة إيصال هذه المعرفة ليست مطلقة إذ اللفظ الواحد يحتمل عدة معان، مما يجعل من السهل التلاعب بالألفاظ.

ثانيًا: سقراط

أهم شخصية في جميع مراحل الفلسفة القديمة، يعتقد بعض المؤرخين أن شخصية سقراط شخصية خرافية ابتدعها خيال أفلاطون وأريستوفان صاحب رواية السحب، وذلك لأنه ليست لدينا مراجع مؤكدة عن حياة سقراط غير الصور المسرحية أو الجدلية التي نجد فيها سقراط يتصدر المناقشة في كثير من الأحايين، وذلك كما في محاورات أفلاطون.

على أية حال فإنه كان لا بد من أن يظهر "سقراط"، ما، ذلك لأن شخصية سقراط كما تواترت إلينا إنما تعبر عن نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة من مراحل تطور الفكر اليوناني.

فقد عرفنا أن السفسطائيين قد أثاروا أزمة حول المعرفة نتيجة لقولهم بنسبتها ومن ثم باستحالتها، وتناقشوا في هذه المشاكل في الأسواق، وفي المجتمعات الخاصة والعامة، وفي المجلس الأثيني وفي حلقات الرياضة والمصارعة، فشككوا الناس في عقائدهم بحيث لم يكن ثمة مجال لاستمرار العالم أو المعرفة مادام الإنسان الفرد مقياس كل شيء.

وما لبث المحافظون في المجتمع الأثيني أن شعروا بخطورة هذه الدعوى على الدين والأخلاق والنظم القائمة ثم على الفكر اليوناني أي على الفلسفة. فكأن هذا الهجوم السفسطائي قد أيقظ الذهن اليوناني لكي يعود فيتناول معارفه جميعًا بالنقد والتمحيص ويعيد بناءها على أساس منطق سليم. وهذا هو الدور الذي كان على شخص كسقراط أن يلعبه، إذا كان لابد من أن يحدث تطور فكري فلسفي كذلك الذي ظهر بالفعل عند أفلاطون وأرسطو.

كان سقراط - على ما يذكر - خصمًا عنيدًا للسفسطائيين وكذلك لتلاميذهم من الأثرياء والنبلاء، وكان يريد صادقًا أن يأخذ بيد الناس حتى يزيل عنهم غشاوة الجهل، ولذلك فقد كان يتبع نفس أسلوب السفسطائيين ويجادل الناس في الأسواق وعلى قارعة الطريق. وقد أدت به مناقشاته هذه إلى أن يقف أمام المجلس النيابي في أثينا الذي أدانه وحكم بإعدامه بتجرع السم، فلم يحاول أن يبرئ نفسه متنكرًا لمبادئه بالاعتذار عما كان يراه حقًا.

مرحلة أرسطو وأفلاطون (القرن الرابع قبل الميلاد)

أولًا : أفلاطون

يحتل مذهب أفلاطون منزلة الصدارة في تاريخ الفكر البشري، وهو يمثل مع أرسطو المرحلة الثالثة من مراحل الفلسفة القديمة، فقد كان تأثيره واضح المعالم على مختلف التيارات الفلسفية فيما تلاه من عصور، وشغل المفكرون أنفسهم عدة قرون في التعليق على إنتاجه الفكري وشرح منهجه وآرائه سواء في الفلسفة أو في السياسة أو الادب أو الاخلاق، ويرجع ذلك إلى خصوبه فكره وعمق آرائه .

ولد أفلاطون في أثينا 427 ق.م، وكانت أسرته من أعرق الاسر الأرستقراطية في المدينة، فقد كان سولون المشرع أحد أجداده .

أبرز سمات فلسفة أفلاطون:

1- إلى جانب النزعة المنطقية الرياضية التي تميز بها أسلوب أفلاطون الفكري، تجد اتجاهًا إلى التصوف، وإلى ممارسة الحياة الروحية في أعلى مراتبها.
  • فمن الناحية الأولى نجد أن أفلاطون قد استخدم المنطق بكل دقة في ميدان المعرفة، وذلك في أسلوبه الجدلي المنهجي الذي استخدمه للبرهنة على وجود عالم المثل. 
  • كذلك فقد استعار الاستدلال الرياضي من الفيثاغوريين وطبق منهجهم الفرضي، وتمسك بضرورة دراسة الفيلسوف للرياضيات، ولهذا فقد كتب على باب الأكاديمية: "لا يدخل هنا إلا من كان رياضيًا".
  • ومن الناحية الثانية نجد أنه قد أضاف إلى هذا المنهج المنطق الرياضي اتجاهًا صوفيًا عميقًا تلقاه من النحلة الأورفية وتعاليم الفيثاغوريين، وقد كان لهذه النزعة الروحية العميقة عند أفلاطون أثرها الكبير على المتصوفة فيما بعد، سواء منهم المسيحيين أو المسلمين.
  • ويبدو أن تعاليم الأورفية والفيثاغورية لم تكن المصدر الوحيد لهذه النزعة عند أفلاطون، بل يرجع هذا أيضًا إلى طفولة أفلاطون التي امتازت بالتدين العميق.
  • نحن نحس في كتاباته آثار هذه العاطفة الدينية الملتهبة، ونشوة الحب، والإيمان بالأسرار العميقة التي ترمز إلى وحي الآلهة، ولهذا فإنه اتجه إلى البحث عن المثل الأعلى، أي عن عالم أسمى فيما وراء عالم الحس، عالم تنطلق إليه النفس في صفاتها وتطهرها، فكان أن كشفت له التجربة الروحية عن آفاق عالم المثل.
2- وقد أحس أفلاطون بصعوبة التفسير اللفظي عن هذا الوجود المتعالي الذي يجاوز نطاق التجربة الحسية. ولهذا فقد لجأ إلى الأسطورة وإلى الصور الخيالية لكي يفسر بها حقيقة هذا العالم العقلي وأبعاده المثالية، وكان يشعر في أعماق نفسه بأن العبارات الشاعرية الوصفية التي كان يسوقها لإيضاح حقيقة عالم المثل لن تحقق هذا الغرض على الوجه الأكمل.
  • فقد كان أفلاطون إذن شاعرًا بصعوبة التعبير عن مضمون مذهبه لخصوبة الفكرة التي انتهت إليها تجربته الروحية، ولأن اللغة - وقد وضعت للإشارة إلى الموجودات الحسية - لا يمكن أن تصلح للتعبير عن عالم مثالي مغاير لعالمنا الحسي في وجوده وطبيعته.
  • وقد استند الصوفية فيما بعد إلى موقف أفلاطون هذا واكتفوا بالإشارات الرمزية لإيضاح مضمون تجاربهم الروحية. ومع هذا فإن الفكر الأفلاطوني يختلف عن الاتجاهات الصوفية البحتة في أنه، على الرغم من اتجاهاته المثالية، إلا أنه لم يكن يبتعد كثيرًا عن حدود الأسلوب المنطقي والاستدلالات الرياضية.
  • ومن هنا تبدو حقيقة المشكلة في مذهب أفلاطون، إذ إنه لم يكن مذهبًا وصفيًا يرصد تجربة شخصية روحية فريدة ويسجلها فحسب كما يفعل الصوفية، ولكنه كان يحاول في نفس الوقت أن يدلل برهانيًا على صحة تجربته، ويقيم وجود العالم العقلي على أسس منطقية رياضية.
  • وثمة أمر هام كان له تأثيره الواضح على التجربة الأفلاطونية، فعلى الرغم من ما كان يبدو من شدة تعطش أفلاطون للمعرفة وتحرقه إلى المثل العليا مما دفع به في طريق التأمل والعزلة وسيطرة النفس على البدن، إلا أنه قد نشأ في بيئة أرستقراطية غرست في نفسه ميلًا إلى ممارسة السياسة والمساهمة في شؤون الحكم.
  • لهذا فقد ظهر لديه اتجاه واضح إلى إيجاد نوع من التوازن والانسجام بين النفس والجسد مما ييسر له سبل الاتصال بالحياة العامة ويحول بينه وبين الإغراق في حياة التأمل الخالص.
  • ومع هذا فإن الفكر الأفلاطوني لم يستطع التخلص من هذا الاتجاه المزدوج إلى النظر وإلى العمل، أو بمعنى آخر الاتجاه إلى التأمل الفلسفي والعمل السياسي معًا، فإذا كانت غاية التأمل الفلسفي عنده هي خلاص النفس وتطهيرها عن طريق ممارسة الحكمة، فإن غاية العمل السياسي في نظره إنما تكون في خلق الظروف الصالحة لتربية المواطن اليوناني، وذلك عن طريق إصلاح نظم المدينة اليونانية حتى تكفل لها السلامة في الداخل والخارج.

3- المعرفة عند أفلاطون: المعرفة عند أفلاطون تعتمد على التمييز بين العالم الحسي المتغير وعالم المثل الثابتة.
المعرفة ترتبط بما هو ثابت وأبدي، أي المثل. 
  1. المعرفة الحقيقية هي الفهم العميق للأفكار المثالية مثل "العدل" و"الجمال" و"الخير"، وهي تتجاوز العالم المادي.
  2. الرأي يتعلق بالعالم المحسوس المتغير، وهو مجرد تصور شخصي ولا يمكن اعتباره معرفة حقيقية. الحواس تخلق أوهامًا تجعل الناس يظنون أنهم يعرفون، ولكن هذا ليس إلا رأيًا.
  • أفلاطون يرى أن المعرفة الحقيقية لا تتعلق بالأشياء المادية، بل تتعلق بـ "المثل"، وهي الأفكار المثالية التي تمثل الحقيقة المطلقة. على سبيل المثال، هناك مثل أعلى للجمال لا يمكن رؤيته في العالم المادي، لكن كل الأشياء الجميلة تشترك فيه بشكل جزئي.
  • أفلاطون يعتقد أن الروح كانت على معرفة بالمثل قبل أن تتجسد في الجسد. لذلك، التعلم هو في جوهره عملية تذكر ما كانت الروح تعرفه مسبقًا. هذا يوضح كيف يمكن للفرد الوصول إلى معرفة الحقائق الأبدية من خلال التأمل العقلي والفلسفي.
  • الفيلسوف هو الذي يتجاوز العالم الحسي ويبحث عن الحقيقة في عالم المثل. هذا هو الطريق نحو المعرفة الحقيقية، وهو ما يميز الفيلسوف عن غيره.

4- العالم المحسوس: العالم المحسوس عند أفلاطون هو العالم الذي ندركه بحواسنا الخمس (البصر، السمع، اللمس، الذوق، الشم). هذا العالم يتكون من الأشياء المادية التي نراها ونتفاعل معها في حياتنا اليومية، ولكنه، وفقًا لفلسفة أفلاطون، ليس العالم الحقيقي أو المثالي. بل يعتبره مجرد انعكاس أو تقليد غير كامل لعالم أسمى وأبدي، وهو عالم المثل.

خصائص العالم المحسوس:

  • التغير وعدم الثبات: الأشياء في العالم المحسوس دائمة التغير، فهي تولد وتنمو ثم تفسد وتموت. لا يوجد شيء ثابت أو دائم في هذا العالم، مما يجعله غير مناسب لأن يكون مصدرًا للمعرفة الحقيقية.
  • الفناء: العالم المحسوس يخضع للزمن، حيث يتأثر بالعوامل الزمنية مثل النمو والشيخوخة والفناء. كل شيء في هذا العالم له بداية ونهاية.
  • الخداع والوهم: لأن العالم المحسوس يتغير باستمرار ويعتمد على حواسنا المحدودة، فإننا غالبًا ما نقع في وهم أو خطأ في إدراك الحقيقة. الحواس يمكن أن تخدعنا، مما يجعل من الصعب علينا التوصل إلى معرفة دقيقة وثابتة.
  • الانعكاس الضعيف لعالم المثل: أفلاطون يرى أن الأشياء في العالم المحسوس ليست سوى نسخ غير مكتملة أو انعكاسات لعالم المثل المثالي. على سبيل المثال، كل الأشياء الجميلة التي نراها في العالم المحسوس ليست إلا تجسيدًا ناقصًا لفكرة "الجمال" المثالية التي توجد في عالم المثل.

5- العالم المعقول: عند أفلاطون هو عالم الأفكار أو عالم المثل، وهو العالم الذي يُدرك بالعقل والتأمل الفلسفي، وليس بالحواس. يعتقد أفلاطون أن هذا العالم هو الحقيقة المطلقة والدائمة، على عكس العالم المحسوس الذي يتصف بالتغير والفساد.

خصائص العالم المعقول:

  • الثبات والأبدية: العالم المعقول لا يتغير، فهو يتألف من المثل أو الأفكار المثالية التي لا تتأثر بالزمن أو التغير. على سبيل المثال، فكرة "العدل" أو "الجمال" في هذا العالم تبقى كما هي ولا تتبدل.
  • الكمال: الأفكار أو المثل في هذا العالم هي التجسيد الكامل والنهائي للحقيقة. كل شيء في العالم المحسوس ما هو إلا تقليد ناقص وغير مكتمل لتلك المثل. على سبيل المثال، كل الأشياء الجميلة في العالم المحسوس تستمد جمالها من فكرة الجمال المثالية الموجودة في العالم المعقول.
  • الإدراك العقلي: لا يمكن إدراك العالم المعقول بالحواس الخمس، بل يحتاج إلى استخدام العقل والتأمل الفلسفي. المعرفة الحقيقية تأتي من استخدام العقل في فهم المثل المثالية، وليس من التجربة الحسية.
  • مصدر المعرفة الحقيقية: بالنسبة لأفلاطون، المعرفة الحقيقية تتعلق بالعالم المعقول فقط. الحواس تعطينا آراء أو تصورات عن العالم المحسوس، لكنها ليست معرفة يقينية. العقل وحده يمكنه الوصول إلى الحقيقة من خلال فهم المثل.
  • الوجود المستقل: المثل في العالم المعقول لها وجود مستقل عن العالم المحسوس. فهي لا تعتمد على وجود الأشياء المادية، بل توجد بشكل منفصل وكامل في حد ذاتها.

العلاقة بين العالم المحسوس والعالم المعقول:

  • العالم المحسوس: هو العالم الذي نختبره يوميًا من خلال الحواس، وهو يتغير باستمرار ويخضع للزمن.
  • العالم المعقول: هو العالم المثالي الذي يحتوي على المثل الدائمة والثابتة. يمكن الوصول إليه فقط عبر العقل، وهو يمثل الحقيقة المطلقة.

6- النفس: النفس عند أفلاطون لها دور مركزي في فلسفته، حيث تعتبر جوهر الإنسان، وهي الكيان الذي يربط بين العالم الحسي والعالم المعقول. يرى أفلاطون أن النفس هي أكثر أهمية من الجسد لأنها ترتبط بعالم المثل وتحتفظ بالمعرفة الحقيقية.

7- الأخلاق: الأخلاق عند أفلاطون ترتبط بالفضيلة والمعرفة، حيث تتعلق بتحقيق التوازن والانسجام بين الأجزاء المختلفة للنفس. الفضيلة هي المعرفة بالخير، والجهل هو سبب السلوك غير الأخلاقي. الأخلاق لا تتعلق فقط بالسلوك الفردي، بل أيضًا بالتنظيم العادل للمجتمع. تحقيق السعادة الحقيقية يتطلب العيش بحكمة وعدل، والارتقاء نحو فهم الخير المطلق.

8- السياسة: السياسة عند أفلاطون تهدف إلى تحقيق العدالة من خلال حكم الفلاسفة الذين يمتلكون الحكمة والمعرفة. الدولة الفاضلة هي التي تعمل على تحقيق الانسجام بين الطبقات المختلفة في المجتمع، حيث يؤدي كل فرد دوره بشكل يتناسب مع طبيعته وقدراته. الأخلاق والفضيلة هما الأساس الذي ينبغي أن يُبنى عليه النظام السياسي العادل.

ثانيًا : أرسطو

مذهب أرسطو يُعتبر من أكثر الفلسفات تأثيرًا في التاريخ الغربي، حيث أسس نظامًا فلسفيًا شاملاً امتد ليشمل العديد من المجالات مثل المنطق، الميتافيزيقا، الأخلاق، السياسة، العلم، والفن. تعاليم أرسطو شكلت إطارًا فكريًا استمر قرونًا، وكانت له رؤية خاصة حول العالم الطبيعي والإنسان.

وُلد أرسطو في عام 384 قبل الميلاد في مدينة ستاغيرا، وهي مدينة يونانية تقع في منطقة مقدونيا على الساحل الشمالي لبحر إيجه. كان والده نيقوماخوس طبيبًا شخصيًا للملك أمينتاس الثالث، ملك مقدونيا، مما جعل أرسطو على اتصال بالأوساط الملكية في شبابه. هذا الانتماء قد ساعد لاحقًا في تكوين علاقاته القوية مع البلاط المقدوني، حيث أصبح معلمًا للإسكندر الأكبر.

أبرز سمات فلسفة أرسطو:

1. الميتافيزيقا (علم الوجود)

في ميتافيزيقا أرسطو، ينظر إلى الوجود على أنه مكون من "جوهر" و"عرض". الجواهر هي الأشياء التي يمكن أن توجد بحد ذاتها، مثل الإنسان أو الحيوان، في حين أن الأعراض هي الخصائص التي تعتمد على الجواهر، مثل اللون أو الحجم. أرسطو يرفض مفهوم أفلاطون عن "المثل"، ويؤكد على أن العالم الحقيقي هو العالم الذي نعيش فيه، حيث يمكننا دراسة الأشياء كما هي.

  • نظرية العلة الأربع: اعتقد أرسطو أن هناك أربعة أسباب (علل) لفهم أي شيء في الوجود:
    1. العلة المادية: ما يتكون منه الشيء (مثل الخشب في الطاولة).
    2. العلة الصورية: الشكل أو النموذج الذي يتخذه الشيء.
    3. العلة الفاعلة: القوة أو العامل الذي يجعل الشيء يحدث (النجار الذي يصنع الطاولة).
    4. العلة الغائية: الغاية أو الهدف النهائي للشيء (استخدام الطاولة لتناول الطعام).
  • التجريبية والواقعية
  1. أرسطو اعتمد على الملاحظة والتجربة لفهم العالم، على عكس أفلاطون الذي كان يركز على العالم المثالي والمجرد. أرسطو يرى أن الحقيقة تُكتشف من خلال دراسة الأشياء كما هي في العالم الواقعي.
  2. رفض نظرية أفلاطون عن "المثل" وركز على دراسة الأشياء المادية والملموسة.
2. الفلسفة الأخلاقية الوسطية
  • أرسطو قدم مبدأ "الوسط الذهبي" في الأخلاق، حيث يرى أن الفضيلة تكمن في الاعتدال بين الإفراط والتفريط. على سبيل المثال، الفضيلة هي الشجاعة، وهي الوسط بين الجبن (التفريط) والتهور (الإفراط).
  • السعادة، أو "إيودايمونيا"، هي الغاية الأسمى في الحياة، وتتحقق من خلال الفضيلة والعمل الجيد.
3. الميتافيزيقا: الربط بين الجوهر والعرض
  • أرسطو يرى أن الوجود مكون من جوهر (الشيء نفسه) وعرض (الصفات التي تظهر عليه). الأشياء في العالم لها جوهر أساسي، وما يتغير هو العرض فقط.
  • يعتبر أرسطو أن كل شيء له غاية، وأن الكون منظم وفقًا لغائية تسعى نحو تحقيق الأهداف النهائية.
4. المنطق والاستدلال
  • أرسطو هو مؤسس علم المنطق كفرع مستقل للفلسفة. قام بتطوير القياس المنطقي (syllogism)، وهو أسلوب في الاستدلال يعتمد على افتراضات تؤدي إلى استنتاج صحيح.
  • كتابه "الأورغانون" يعتبر المرجع الرئيسي في المنطق.
5. السياسة والطبيعة الاجتماعية للإنسان
  • يرى أرسطو أن الإنسان "كائن سياسي" بطبيعته، وأن الحياة في مجتمع سياسي هي الطريقة التي يمكن للإنسان من خلالها تحقيق سعادته.
  • أرسطو قدم تصنيفًا للأنظمة السياسية، مفضلاً الملكية والأرستقراطية إذا كانت تسعى للصالح العام، لكنه انتقد الانحرافات نحو الاستبداد والأوليغارشية.
6. النظرة التيلولوجية (الغائية)
  • أرسطو يعتقد أن كل شيء في الكون يسير نحو غاية أو هدف نهائي. هذا المفهوم يعرف بـ "التيلولوجيا"، وهو يشمل كل شيء من الأجرام السماوية إلى الكائنات الحية.
  • الكائنات الحية، بحسب أرسطو، تسعى لتحقيق الغاية النهائية لنموها، وهي الوصول إلى كمالها الطبيعي.
7. العلم والطبيعة
  • أرسطو كان من أوائل من حاولوا وضع قواعد علمية لفهم الطبيعة. قام بدراسة الكائنات الحية وتصنيفها بناءً على صفاتها البيولوجية.
  • كان يؤمن بأن الطبيعة منظمة وتحكمها قوانين سببية، وأن كل شيء يتحرك وفقًا لغاية نهائية.
8. نظرية المحرك الأول
  • أرسطو طرح مفهوم "المحرك الأول" أو "المحرِّك غير المتحرك"، وهو كائن أبدي غير مادي يُعتبر العلة النهائية لكل الحركات في الكون، ولا يتحرك بذاته. هذا المفهوم يُستخدم لشرح السبب النهائي للوجود وللحركة في الكون.
9. الفن والجمال
  • أرسطو يرى أن الفن هو "تقليد" للطبيعة، ولكنه تقليد يساعد على توضيح الجوانب المثالية أو الجوهرية من الأشياء.
  • في كتابه "فن الشعر"، قدم تحليلًا للتراجيديا والكوميديا، واعتبر التراجيديا وسيلة للتطهير النفسي ("الكاتارسيس") من خلال إثارة مشاعر الخوف والشفقة.

تتميز فلسفة أرسطو بشمولها وقدرتها على الربط بين مختلف المجالات الفكرية، من الأخلاق إلى السياسة والعلم. أفكاره تعتبر حجر الزاوية في الفلسفة الغربية، وتستمر في التأثير على الفلاسفة والعلماء حتى يومنا هذا.

مرحلة الفترة الهلنستية (القرن الثالث قبل الميلاد - القرن الثالث الميلادي)

تشير الفلسفة الهلنستية إلى الفترة التي بدأت بعد وفاة الإسكندر الأكبر في عام 323 ق.م واستمرت حتى القرن الثالث الميلادي. خلال هذه الفترة، انتشرت الثقافة اليونانية (الهيلينية) في أنحاء واسعة من العالم القديم(مصر، سوريا، بلاد فارس، وغيرها)، مما أدى إلى ظهور مدارس فلسفية جديدة مثل :

أولًا: الرواقية
  • مؤسسوها: زينون (من كتيون)، وأبرز فلاسفتها سينيكا وماركوس أوريليوس.
  • المبادئ الأساسية:التركيز على العيش وفقًا للعقل والطبيعة.
  1. تعزيز الفضيلة كوسيلة لتحقيق السعادة الحقيقية.
  2. السيطرة على العواطف والتعامل مع المحن برباطة جأش.
  • التأثير: الرواقية ساهمت في تطوير الأخلاق الفردية والاجتماعية، واعتُبرت مرجعًا مهمًا في الفلسفة الرومانية.
ثانيًا: الأبيقورية
  • مؤسسها: أبيقور.
  • المبادئ الأساسية:

  1. السعادة تُتحقق من خلال اللذة، ولكن مع فهم أن أعظم اللذات هي غياب الألم (أو الألذ).
  2. التأكيد على أهمية الصداقة والعلاقات الإنسانية.
  3. انتقاد الخرافات والخوف من الآلهة.
  • التأثير: تركت الأبيقورية أثرًا كبيرًا في تطور الفلسفة الأخلاقية، وكانت لها تأثيرات على التفكير العلمي والعقلاني.

ثالثًا: الشكّية
  • مؤسسوها: بيرون، وطورها لاحقًا أمونيوس.
  • المبادئ الأساسية:
  1. الشك في إمكانية المعرفة المطلقة.
  2. التأكيد على أهمية البحث عن الهدوء النفسي من خلال الشك.
  3. دعوة لتجنب الجدل والتمسك بالهدوء الداخلي.
  • التأثير: ساهمت في تطوير التفكير النقدي والإدراك الفلسفي حول حدود المعرفة.
رابعًا: المشائية
  • مؤسسها: أرسطو، ولكنها تطورت بعد وفاته.
  • المبادئ الأساسية:

  1. دمج الأفكار الفلسفية مع الأبحاث العلمية.
  2. دراسة الطبيعة والبيولوجيا، وتركز على النظام والملاحظة.
  3. تطوير المنطق كأداة لفهم العالم.
  • التأثير: استمرت في التأثير على الفلسفة الغربية حتى العصور الوسطى.

خصائص فلسفة المرحلة الهلنستية
  • التطبيق العملي: تميزت الفلسفة الهلنستية بالتركيز على القضايا العملية وكيفية تحقيق السعادة في الحياة اليومية.
  • تعدد الثقافات: تفاعل الأفكار اليونانية مع الثقافات الشرقية، مما أدى إلى تطوير رؤى فلسفية جديدة.
  • الأخلاق: تمحورت الفلسفات حول أخلاق الحياة، وكيفية التعامل مع المعاناة والتحديات.
  • الطبيعة والكون: سعت الفلسفات لفهم طبيعة الكون، ولكن مع توجهات مختلفة حول المعرفة والوجود.
الخلاصة

فلسفة المرحلة الهلنستية تمثل نقطة تحول في تاريخ الفكر الفلسفي، حيث تداخلت الأفكار والنظريات لتشكيل رؤية شاملة عن الإنسان والكون. تركت هذه الفلسفات تأثيرًا عميقًا على الفكر الغربي والعالمي، ولا تزال تُدرس وتُناقش حتى اليوم.

مرحلة الفلسفة الرومانية

الفلسفة الرومانية ليست مدرسة فلسفية جديدة بحد ذاتها، ولكنها تمثل المرحلة التي تبنت فيها روما الأفكار الفلسفية التي نشأت في اليونان وانتشرت خلال الفترة الهلنستية. الرومان كانوا مفتونين بالفلسفة اليونانية، وطوروا بعض الأفكار الفلسفية التي جاءت منها، خاصة فيما يتعلق بالأخلاق والسياسة. وقد برزت مدارس الفلسفة الهلنستية بشكل خاص عند الرومان، وخاصة الرواقية.

العلاقة بين الفلسفة الهلنستية والفلسفة الرومانية:
  1. التأثير: الفلسفة الرومانية تأثرت بشكل كبير بالفلسفة الهلنستية، وخاصة الرواقية، التي أصبحت شائعة جدًا بين النخبة الرومانية. على سبيل المثال، سينيكا وماركوس أوريليوس (إمبراطور روماني) كانوا من أبرز الرواقين الرومان.
  2. الاستمرارية: الفلسفة الرومانية ليست قطيعة عن الفلسفة الهلنستية، بل هي استمرار لها في ظل الإمبراطورية الرومانية. الرومان استوعبوا الأفكار الفلسفية اليونانية وطوروها بما يتناسب مع ثقافتهم وحياتهم العملية.
  3. التركيز: في حين أن الفلسفة الهلنستية كانت متنوعة وتشمل عدة مدارس، كان التركيز الأكبر في الفلسفة الرومانية على تطبيقات الفلسفة العملية مثل الأخلاق الشخصية والسياسية. الرواقية كانت الأبرز في هذا السياق، لأنها تدعو إلى السيطرة على العواطف والعيش وفقًا للطبيعة والفضيلة، وهي أفكار كانت تتماشى مع الأخلاق الرومانية.
أشهر الفلاسفة الرومان المتأثرين بالهلنستية:
  • سينيكا: فيلسوف رواقي ومستشار إمبراطوري، كتب حول الفضيلة والصبر والتحكم في النفس.
  • ماركوس أوريليوس: إمبراطور روماني وفيلسوف رواقي، كتب "التأملات"، التي تعتبر واحدة من أهم الأعمال الفلسفية في الرواقية.
  • شيشرون: فيلسوف وخطيب روماني، تأثر بالأفكار الهلنستية، خاصة في المجال الأخلاقي والسياسي.
الفارق الرئيسي:
  • الفلسفة الهلنستية هي فلسفة يونانية نشأت في الفترة الهلنستية وركزت على السعادة والطمأنينة في مواجهة التغيرات الاجتماعية والسياسية.
  • الفلسفة الرومانية تأثرت بشدة بالفلسفة الهلنستية واحتفظت بالعديد من مبادئها، لكنها ركزت أكثر على تطبيقات عملية تتناسب مع الحياة السياسية والاجتماعية في الإمبراطورية الرومانية.

بأختصار، الفلسفة الرومانية ليست فلسفة مستقلة تمامًا، بل هي تفاعل واستمرار للفلسفات اليونانية الهلنستية مع تطورات جديدة تناسب البيئة الرومانية.

الخاتمة : مراحل الفلسفة القديمة تعكس تطور الفكر الإنساني من محاولات تفسير الكون عبر الطبيعة إلى التركيز على الأخلاق والمعرفة الذاتية. بدأت بالفلاسفة الطبيعيين، مرورًا بالسفسطائية، وصولاً إلى المدارس العظيمة مثل الأفلاطونية والأرسطية، وانتهت بالفلسفات الهلنستية والرومانية. كل مرحلة ساهمت في تشكيل أسس الفكر الفلسفي الغربي بل والعالمي التي لا تزال تؤثر حتى اليوم.

google-playkhamsatmostaqltradent