عبر التاريخ، ساهمت الحضارات المختلفة في تطور الفكر البشري، وكانت كل حضارة تضيف خطوة إلى الأمام في مسيرة المعرفة الإنسانية. وقد بدأت تلك المسيرة بمحاولات الإنسان الأولى لفهم الكون وظواهره من خلال الخرافات والأساطير. ثم تطور الفكر الإنساني مع تغير الظروف الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية، ما قاد في النهاية إلى نشأة الفلسفة. كانت الفلسفة نتاجًا للعقل والمنطق، وتجاوزًا للأساطير والخرافات التي لم تعد تواكب الواقع المتغير.
نشأة الفلسفة |
نشأة الفلسفة
كانت الأساطير والخرافات تمثل المحاولات الأولى للإنسان القديم لتفسير الظواهر الطبيعية، وكانت هذه الأساليب تعتمد على روايات خيالية عن قوى خفية تحكم العالم. ولكن مع تقدم الحضارات، وخصوصًا في اليونان القديمة، بدأ الإنسان يبحث عن تفسير أكثر عقلانية لما يحيط به. وهكذا ظهرت الفلسفة كنتيجة للتحول من الأسلوب الأسطوري في التفكير إلى الأسلوب الذي يعتمد على العقل والتجربة.
هذا التطور لا يعني أن كل مرحلة تلغي ما قبلها، بل إن كل مرحلة تبني على ما سبقها وتطوره، فتظل الخرافات والأساطير جزءًا من تراث الفكر البشري حتى لو تجاوزتها الفلسفة والعلم فيما بعد.
المستعمرات إلاغريقية ودورها في نشأة الفلسفة
من المهم إلقاء نظرة ولوا بسيطة على تاريخ المستعمرات إلاغريقية عند دراستنا لنشأة الفلسفة، لإنها الموطن ألاول لنشأة الفلسفة.
كان اليونانيون يعتقدون أنهم أصيلون في جزيرتهم؛ والحقيقة أنهم جاءوها من آسيا، فهم آريون أو هنديون أوروبيون، وكانوا يدعون سكان بلادهم الأولين بالبلاجيين ويدعون أنفسهم بالهلانيين .
المستعمرات إلاغريقية |
وكانوا أربع قبائل كبرى مختلفة خلقًا ولهجة.
- الأيوليون والدوريون في الشمال.
- الأخيون والأيونيون في بلوبونيسيا - المورة الآن -.
- فريق منهم صعد إلى الأتيك في شمال المورة إلى الشرق
- وفريق أبحر إلى آسيا فأحتل جزيرتي خيوس وساموس والشاطئ الآسيوي من أزمير إلى نهر میاندر؛ فعرفت هذه المنطقة باسم أيونية وقامت فيها مدن شهيرة؛ أهمها : أزمير - اغتصبوها من الأيوليين - وأفسوس وملطية ( موطن أول الفلاسفة، طاليس ).
ولم يقتصر الدوريون على فتح المورة، بل استعمروا الجزر الممتدة من قيثارة في جنوب المورة إلى رودس عند الشاطئ الآسيوي وقسما من هذا الشاطئ إلى جنوب أيونية، وسمي هذا القسم بالدورية.
- فمنهم من صعد إلى الشمال فحل شواطئ تراقية وخلقيدية، أي الروملي الحالية.
- ومنهم من سافر إلى الغرب فأستعمر إيطاليا الجنوبية - وقد سماها الرومان لذلك باليونان الكبرى - وصقلية، والأندلس، وجنوب فرنسا، حيث أنشئوا مرسيليا.
- ومنهم من يمم الجنوب فنزل قبرص و مصر وشمال أفريقيا.
وفي هذا العصر بني بعض الدوريين مدينتين على ضفتي البوسفور : إحداهما على الضفة الشرقية هي: خلقيدونية (أشقودرة) والأخرى على الضفة الغربية هي : بيزنطية) استانبول.
وكانت هذه المدن والمستعمرات المنتشرة في البحر المتوسط من الشرق إلى الغرب مستقلة في السياسة والإدارة، ولكنها كانت تؤلف عالمًا واحدًا هو العالم اليوناني تجمع بين أجزائه وحدة الجنس واللغة والدين .
بدأت هذه المستعمرات في الظهور منذ القرن الثامن قبل الميلاد لأسباب منها الحروب والزيادة السكانية في المدن اليونانية الأم، وحاجتهم إلى البحث عن أراضٍ جديدة للحصول على الموارد الطبيعية وتعزيز التجارة.
في هذه المستعمرات ظهرت بوادر الفلسفة، وكان الفيلسوف طاليس أول من حاول تفسير العالم بطريقة عقلانية، متجاوزًا الأساطير. ومع الوقت، نشأت مدارس فلسفية أخرى في جنوب إيطاليا وصقلية، حيث ازدهرت الأفكار الفلسفية وأصبحت هذه المناطق مراكز هامة للفكر الفلسفي.
هذه المستعمرات لعبت دورًا مهمًا في نشر الثقافة الإغريقية والفكر الفلسفي إلى مناطق بعيدة. من أشهر المناطق التي استوطنها الإغريق:
- آسيا الصغرى (الساحل الغربي لتركيا حاليًا): مدن مثل ميليتوس، أفسس، وهاليكارناسوس. كانت هذه المدن مراكز هامة للتجارة والفكر، وفيها نشأت الفلسفة الطبيعية.
- جنوب إيطاليا (المعروفة أيضًا بـ "ماغنا غراسيا" أو اليونان الكبرى): مدن مثل كروتونا، سيباريس، وسيراكوزا. هذه المستعمرات أصبحت موطنًا للفلاسفة مثل فيثاغورس وبارمينيدس.
- صقلية: مدينة سيراكوزا كانت مركزًا ثقافيًا وسياسيًا هامًا، وشهدت حضور فلاسفة مثل إمبيدوكليس وأفلاطون.
- البحر الأسود: مدن مثل بيزنطة (التي أصبحت لاحقًا القسطنطينية، ثم إسطنبول) وغيرها من المستعمرات الإغريقية التي أسسها التجار والمستوطنون الإغريق.
من خلال هذه المستعمرات، تم تبادل الأفكار والمعرفة عبر البحر الأبيض المتوسط، مما ساهم في انتشار الفكر الفلسفي والعلمي، ونقل الثقافة الإغريقية إلى مناطق بعيدة عن اليونان.
من التفكير الاسطوري الئ التفكير العقلاني
التحول من التفكير الأسطوري إلى التفكير العقلاني كان خطوة كبيرة في تاريخ الفكر البشري، لكن هذا التحول لم يحدث فجأة، بل كان نتيجة تطور تدريجي. في البداية، كان الفكر اليوناني يعتمد بشكل كبير على الأساطير لتفسير الظواهر الطبيعية. هذه الأساطير، المعروفة بخطاب "الميثوس"، كانت تعتمد على الخيال دون أي أساس منطقي.
لكن مع تقدم الحضارة، بدأ اليونانيون يتبنون طرقًا جديدة للتفكير، حيث تم الفصل بين الفكر الأسطوري وفكر "اللوغوس"، وهو التفكير العقلاني الذي يعتمد على المنطق والبرهان. عوامل متعددة ساهمت في هذا التحول، منها تقدم العلوم مثل الرياضيات، وتطور التجارة والملاحة، والإصلاحات السياسية والاجتماعية.
حيث بدأت بوادر الحكمة في الظهور على يد مفكرين أمثال الفيلسوف طاليس في بداية القرن السادس قبل الميلاد، ومن ثم تبعه فلاسفة أخرين.
مكان نشأة الفلسفة
نشأة الفلسفة في البداية كانت في المستعمرات الإغريقية، وبالأخص في منطقة آسيا الصغرى وجنوب إيطاليا وصقلية، حيث أسس الفلاسفة الأوائل مثل طاليس وفيثاغورس مدارسهم التي ركزت على الطبيعة والكون. تلك المناطق كانت نقاط التقاء تجارية وثقافية بين الشرق والغرب، مما ساهم في تطور الفكر الفلسفي المبكر هناك.
ميليتوس في آسيا الصغرى كانت مركزًا هامًا للفلاسفة الطبيعيين، والذين سعوا إلى تفسير العالم بأساليب عقلانية بعيدة عن الميثولوجيا. طاليس، على سبيل المثال، كان أول من طرح فكرة أن الماء هو أصل كل الأشياء، وأنكسيمندر قدم مفاهيم تتعلق بالتغير الكوني والقوى المتضادة.
في إيطاليا الجنوبية، أسس فيثاغورس مدرسة كروتونا التي لم تكن فلسفية فقط، بل كانت حركة شاملة دمجت بين الفلسفة والرياضيات والدين. تأثير فيثاغورس امتد ليشمل نظرياته حول الأعداد والتناسق الموسيقي.
أما في صقلية، فقد كان إمبيدوكليس يمثل فلسفة مميزة، حيث طرح نظرية العناصر الأربعة (الهواء، الماء، الأرض، النار) كأصول لكل ما هو موجود. كان هذا إسهامًا هامًا في الفكر الفلسفي القديم الذي أثر على تطور الفلسفة فيما بعد.
بعد أن ازدهرت الفلسفة في هذه المناطق، انتقلت إلى أثينا، حيث وجدت بيئة فكرية مهيأة ومناخًا سياسيًا يسمح بالنقاش الحر، وهو ما أدى إلى انتشار الفلسفة بفضل شخصيات مثل سقراط، أفلاطون، وأرسطو. أثينا أصبحت المركز العالمي للفكر الفلسفي بفضل التحولات السياسية والاجتماعية التي شجعت على التفكير الحر والمناظرات الفكرية.
الاسباب التي ساعدت على نشأة الفلسفة
أما أسباب ظهور الفلسفة اليونانية، فكانت هناك عدة عوامل لظهورها ونشأتها. من بين هذه العوامل، زيادة القضايا البشرية وتعقيد المسائل العامة التي أصبح من الصعب حسمها. لذلك، كان من الضروري إجراء نقاشات علنية تعتمد على الحجج والبراهين لحسم الأمور المتعلقة بالشأن العام والقضايا الأخرى.
بعد ذلك، حصل المواطنون على حرية أكبر في التعبير عن آرائهم، وهو ما كان له دور مهم في ظهور الفكر الفلسفي. أصبحت حرية التعبير عن الرأي في القضايا العامة حقًا أساسيًا لكل مواطن، وقد ساهم اعتماد النظام السياسي الديمقراطي في الدولة اليونانية في تعزيز هذه الحرية، مما سمح للمواطنين بالتعبير عن آرائهم بحرية أكبر. جميع هذه العوامل مهدت لنشأة الفلسفة في الفترة بين القرنين السابع والسادس قبل الميلاد.
العوامل التي ساهمت في نشأة الفلسفة
ما هي الظروف التي كانت سائدة عند الإنسان الإغريقي حتى أنتج التفكير العقلاني؟ ظهرت الفلسفة في بلاد الإغريق نتيجة لعدة عوامل ساهمت في ظهورها، منها عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية وفكرية. والعوامل التي ساهمت في ظهور الفلسفة عند الإغريق هي:
العوامل السياسية: تحولت اليونان القديمة إلى النظام الديمقراطي بعد انهيار الحكم الأوليغاركي. ومن خصائص النظام الديمقراطي أنه يتيح مساحة من حرية التعبير وتبادل الآراء المختلفة بين الناس، مهما اختلفت مستوياتهم، مما ساعد على طرح أفكار جديدة.
العوامل الاجتماعية: ساهمت التغيرات السياسية في ظهور طبقة متوسطة، تحملت على عاتقها تبني فكر جديد يختلف عن الأفكار السائدة في تلك الفترة. هذه الطبقة المتوسطة كانت محورية في تطوير الأفكار الجديدة.
العوامل الاقتصادية: لعبت العوامل الاقتصادية دورًا كبيرًا في ظهور الفكر العقلاني. حيث إن وجود اقتصاد قوي يعزز من حدوث نهضة فكرية، حيث ساعد الازدهار الاقتصادي في توفير الظروف المناسبة لنمو الفكر العقلاني.
العوامل الفكرية: تمثل التحول الفكري في تحول الفكر اليوناني من الأساطير والخرافات إلى التفكير العقلاني الذي يعتمد على الحقائق والمنطق.
هذه هي العوامل التي كانت وراء ظهور الفلسفة عند الإغريق دون غيرهم، حيث أصبحت الظروف والحياة تتطلب نسقًا فكريًا يلائمها، بل أصبح ذلك ضرورة.
هذه هي أهم الظروف المباشرة التي ساعدت على نشأة الفلسفة عند الإغريق دون غيرهم، حيث أصبحت جميع الظروف مناسبة لديهم للتحول من الفكر الأسطوري الذي أنتج الخرافة والأسطورة إلى الفكر العقلاني الذي أنتج الفلسفة والعلم.
الخاتمة: أجمع المؤرخين على إن الفلسفة نشأت ضمن العقلانية اليونانية، بالإضافة الى أن هناك شيء مهم أخر هو أن التراث اليوناني هو الوحيد الذي وصل الينا واضحًا وشبه كاملًا وهذا على العكس من الحضارات الشرقيه التي اندثر معظمها مع مرور الوقت وفقد تراثها الفكري بنسبه كبيره .