الدين والخلود عند سبينوزا
باروخ سبينوزا, فيلسوف هولندي من أهم فلاسفة القرن 17, ينتمي الى عائلة برتغالية من أصل يهودي, كان والده تاجرًا ناجحًا ولكنه متزمت للدين اليهودي، فكانت تربية باروخ أورثودوكسية، ولكن بسبب طبيعة سبينوزا المتصفه بالنقد, وضعته في صراع مع المجتمع اليهودي .
سبينوزا |
درس العبرية والتلمود في يشيبا (مدرسة يهودية), في آخر دراسته كتب تعليقًا على التلمود, نُبذ سبينوزا من أهلهِ ومن الجالية اليهودية في أمستردام بسبب إدعائه أن الله يكمن في الطبيعة والكون، وكذلك لأنتقاده للنصوص الدينية, حيث وصفها إنها محاولة للتعريف بطبيعة الله .
كان سبينوزا يتصف بألاخلاق الحسنة والمستقيمة, وخط لنفسه نهجًا فلسفيًا خاصًا, يَعتبر سبينوزا لذة المعرفة أو الفرح بها هي الخير الاسمى, وتتم المعرفة من خلال أتحاد الرح بكامل الطبيعة, وهنا يظهر تأثير الحلاج وابن عربي في اسبينوزا .
الدين عند سبينوزا
يرى سبينوزا أن أصل الدين عند الانسان, هو ميل الانسان نحو الخرافة والايمان بالخزعبلات, إن هذا الميل أصلهُ نفسي, لان ما يسيطر على العامة هو عبارة عن أنفعالات الخوف والرجاء .
ونستطيع القول بمعنى أخر, أن سيطرة هذه الانفعالات الحادة و المتناقضةمع بعضها, يجعل من العامة عرضه للتفكير العاطفي, وهذا ما يجعلهم يؤمنون بالخرافات التي يستعينون بها لمواجهة إنفعالاتهم اللاعقلانية .
وبسبب سيطرة الخيال وأولوية التفكير الخيالي لديهم على حساب التفكير العلمي, فهم يشكلون أرضية مناسبة لنشأة الخرافات ونموها وأزدهارها, وهم بهذه الحالة يعطون المسوغ لكل طاغية ومغامر, الارضية لبث الاعتقادات الغيبية الخاطئة .
حال الناس هذا هو السبب فيما يعانونهُ أصلًا من أيمان خرافي وأستغلال السلطات المحتكرة والديكتاتورية لهم .
وهذا يذكرنا بمقولة كارل ماركس " الدين آفيون الشعوب ", وبهذا يكون سبينوزا قد سبق ماركس في المعنى المراد, حتى لو لم يقل نفس العبارة .
هذه الارضية المناسبة للخرافة, تجعل من المحتم لأي مصلح يظهر أن يلجئ لنفس الاسلوب الذي يفكرون به ويقتنعون عن طريقه, وبهذا يتناسب إصلاحه مع طريقة تفكيرهم الخرافية فيطمأنون له, وهذه هي الطريقة الوحيدة لأقناعهم ولمحاولة أصلاحهم .
وبهذا يقر سبينوزا بأن حال العامة سوف يضل هكذا دائمًا, وقليل هم من يطهرون عقولهم من التفكير الخرافي, ويرسمون لنفسهم تفكيرًا منطقيًا صحيحًا .
بألنسبة للدين عند سبينوزا وعلاقتةِ بالسياسة, يرى من الضروري بالسيطرة السياسية على الدين, لأنه يمكن أن يستخدم الدين كسلاح خطير بيد أي مغامر, ويهيج العامة على حكامهم أو على أي نظام قائم .
بألتالي فيما يخص الدين عند سبينوزا, فهو لا يدعي الى مجرد فصل الدين عن الدولة, بل كان يهدف الى سيطرة الدولة على الدين بالكامل وتنظيمه, عبر القوانين المدنية .
وبهذا يكون سبينوزا مكرر نفس كلام أبن رشد في كتابهِ فصل المقال, حيث يشدد أبن رشد على ضرورة وضع سياسة دينية خاصة للعامة, والتحذير من أعطاء التصريح بالتأويل, وحصره بذوي العقول والفلاسفة .
حتى لا يقوم العامة والجهلاء بتأويل النص الديني على أهوائهم ومصالحهم, ويثرون بهذا الفتن والحروب الطائفية فيما بينهم .
يقول سبينوزا في كتابه " رسالة في اللاهوت والسياسة ", لو أستطاع الناس تنظيم شؤون حياتهم وفق خطة مرسومة, أو كان الحظ مواتيًا لهم على الدوام, لما وقعوا فريسةً للخرافة, فأنهم يميلون دائمًا أشد الميل الى التصديق الساذج .
فحكم سبينوزا بخصوص الدين, وخضوع العامة للخرافات, هو عبارة عن تحليل سايكولوجي لنفسية العامة, والذي ربط فيه بين أصل الاديان والخرافات .
يرى سبينوزا أن السلطات الدينية, دائمًا ما تستخدم العامة لتحقيق مصالحها ضد خصومها, وتوجيهها بالاتجاة الذي تريد, حيث يدفعون العامة من خلال الفتاوي ضد كل من يقف في طريقهم, من خلال أتهامه بالهرطقة والتهم الاخرى الجاهزة .
حيث تعتمد السلطات الدينية على الانفعالات, في توجيه العامة نحو مايريدون, وهذه الانفعالات تختلف عن الافكار المتمايزة والمستقلة التي يتوصل إليها الانسان عن طريق الفكر السليم .
ومن الانفعالات التي تشكل أساس سايكولوجية العامة : الخوف والرجاء, أي الخوف من المستقبل المجهول, والرجاء في مكاسب أو متع مقبله, ويجعلهم الخوف والرجاء عرضة للتصديق الساذج, لكل ما يمكنه أن يزول عنهم هذا الخوف أو يبعث فيهم الامل فيما يرجون .
ويميل العامة الى أحدهما عندما يساورهم الشك في شي, أذ يدفعهم هذا الشك بالحركة الى هذا الجانب أو ذاك, فالخوف إذَن يدفعهم نحو الشك, والشك بدوره يشكل الدافع لمزيد من الانفعالات اللاعقلانية .
أما في لحضات الزهو والثقة في النفس لهؤلاء العامة إنفسهم, يركبهم الزهو والغرور, بألتالي هناك زوجين من الانفعالات التي تسيطر على العامة, هما الخوف والرجاء وهذه ترجعهم الى الشك, والزهو والغرور وهذه تدفعهم الى الثقة بالنفس .
وكل هذه هي عبارة عن أنفعالات لاعقلانية عمياء, وفي لحضات الثقة بالنفس يبدون كالحكماء, ولكن حكمتهم هذه زائفة وزائلة, لأنها تدفعهم نحو الاعتقاد في أنهم وحدهم هم الحكماء وغيرهم جهلاء .
فالحكمة التي تؤسسها الثقة بالنفس وتدفع أحدهم لتسفيه الرأي الاخر والنظر إليه بأعتباره مهرطقًا أو كافرًا, فهذه منتشرة عبر التاريخ, كل تاريخ الاديان بمختلف فرقها ومذاهبها المتنوعة .
وأن حكمة العامة الزائفة هذه, تنقلب في وقت الشدة الى حيرة تدفعهم الى ألتماس العون من قبل أي شخص, وخاصة من قبل رجال الدين, فيقوم رجال الدين في هذه اللحظة بأستغلالهم كالعادة .
الخلود عند سبينوزا
بألنسبة لفلسفة الخلود عند سبينوزا, أنه لا شك خاضع للقانون الشامل الثابت الذي يسير الكون كله تبعاً له، وبأعتبار الإنسان جزءاً من هذا الكل فهو خالد، لأنه يستحيل أن ينمحي العقل البشري انمحاء تاماً مع الجسم البشري .
لذلك يرى سبينوزا إن هناك جزءاً من الانسان سيظل خالداً، وهذا الجزء الخالد هو الذي يدرك الأشياء كأجزاء من الكل الخالد، وكلما أمعن الإنسان في إدراكها على هذا النحو، ازداد فكره أبدية وخلوداً .
وهنا يختلف الشراح في تفسير ما يقصده سبينوزا من معنى الخلود، فيذهب بعضهم إلى أنه يريد به الشهرة أو الذكر أو الأثر، أي أن جانب الفكر والعقل من حياتنا سيبقى بعد موتنا ويظل أثره فعالاً في الأجيال المقبلة, ويزعم بعض آخر أن سبينوزا إنما يعني خلوداً فردياً شخصياً.
هذا وسبينوزا ينكر العقاب والثواب، فهو يقول: «إن الذين ينظرون إلى الفضيلة كأنها إذلال للنفس ثم ينتظرون أن يجزيهم الله عنها جزاء أوفى لأبعد ما يكونون عن فهم الفضيلة فهماً صحيحا .
أفليست الفضيلة وخدمة الله هما السعادة نفسها والحرية العليا؟ ليس النعيم في الثواب عن الفضيلة، ولكنه في الفضيلة نفسها .
وبهذه العبارة ينتهي كتاب " الأخلاق " الذي حوي من غزير الفكر ما يحمل كل قارئ أن يطأطئ الرأس إجلالاً لهذا السفر النادر بين ما أنتج البشر .
لم يبق لدينا الآن من كتب سبينوزا إلا رسالته في السياسة التي كتبها في أعوامه الأخيرة، والتي عجل به الموت دون أن يفرغ منها، وهذه الرسالة على صغرها ملأي بالفكر العميق، حتى إن قارئها ليأسف عند تلاوتها أن لم تمهل المنية ذلك الفيلسوف حتى يتم هذا الكتاب الجليل .
الخاتمة : نعم هكذا هو سبينوزا, ليس فقط في فلسفة الدين أو الخلود, بل بجميع أفكاره, نراه قد خط لنفسه نهجًا مميزًا, ولم ينساق وراء الافكار السائدة في زمانه, بل رفضها أشد الرفض, للحد الذي جعله هذا منبوذًا بين قومه .