recent
أهم الموضوعات

المدرسة الملطية: بداية الفلسفة الطبيعية والتفكير العقلاني

المدرسة الملطية

المدرسة الملطية، إحدى أقدم المدارس الفلسفية في العالم، أسست بداية الفكر الفلسفي الطبيعي في القرن السادس قبل الميلاد في مدينة ميليتوس (Miletus) الواقعة على الساحل الغربي لآسيا الصغرى، تركيا حاليًا. كانت هذه المدرسة نواة للفلسفة الطبيعية أو ما يعرف بفلسفة "ما قبل سقراط".
صورة توضح شرحًا حول فلسفة مدرسة ملطية
المدرسة الملطية


المدرسة الملطية أمتازت بنظرتها العلمية للظواهر، وخصوصًا ما كان يتعلق منها بالظواهر الجوية وعلم الفلك، فقد كان اليونانيون وهم ملاحون مهرة دائمي الملاحظة للجو والنجوم، وقد أدى بهم التعمق في دراسات الظواهر الجوية ألى محاولة وضع نظريات تفسر نشأتها والتغيرات التي تطرأ عليها.

تُعد المدرسة الملطية الأساس للفلسفة الطبيعية أو ما يعرف بفلسفة "ما قبل سقراط"، وهي مدرسة تُعنى بدراسة الكون وطبيعته والبحث عن أصل المادة والعناصر الأساسية التي تشكل العالم. كانت هذه المدرسة خطوة كبيرة نحو التخلي عن التفسيرات الأسطورية للكون وتبني التفكير العقلاني والتجريبي.

اهتم فلاسفة هذه المدرسة بتفسير أصل الكون والمادة بطريقة عقلانية ومنطقية، بعيدًا عن التفسيرات الأسطورية والدينية التي كانت سائدة في ذلك الوقت. يمكن القول إن المدرسة الملطية كانت أول محاولة جادة لتقديم تفسير علمي للكون من خلال التركيز على عنصر واحد أو مبدأ أساسي يشكل أصل كل شيء.

كانت الفكرة المحورية التي شغلت أذهان فلاسفة المدرسة الملطية هي "البحث عن المبدأ الأساسي" أو ما يعرف بالإغريقية بـ "Arche" (أركي). كان هدفهم الرئيسي هو تحديد العنصر الأساسي الذي يتكون منه كل شيء في الكون. قدم فلاسفة المدرسة الملطية تفسيرات مختلفة لهذا المبدأ، بناءً على ملاحظاتهم وتأملاتهم الفلسفية.

أهم الأفكار والمفاهيم في المدرسة الملطية

  • البحث عن المبدأ الأساسي (Arche)
كما أشرنا سابقًا، كانت فكرة "الأركي" أو المبدأ الأساسي الذي يشكل أصل كل شيء هي النقطة المحورية في المدرسة الملطية. اختلفت تفسيرات الفلاسفة لهذا المبدأ، حيث رأى طاليس أن الماء هو الأصل، وأناكسيمينس اعتبر الهواء المبدأ الأساسي، بينما اعتبر أناكسيمندر الأبيرون هو الأصل اللامحدود.
  • الاعتماد على العقل والملاحظة
تميزت المدرسة الملطية بمحاولتها التخلي عن التفسيرات الأسطورية والميتافيزيقية للظواهر الطبيعية، واستبدالها بتفسيرات عقلانية تعتمد على الملاحظة والتفكير المنطقي. هذه المنهجية وضعت الأساس للتفكير العلمي والفلسفي في العصور اللاحقة.
  • فكرة التحول والتغير
ركز فلاسفة المدرسة الملطية على التغيرات التي تحدث في الطبيعة، وحاولوا تفسير كيف يمكن أن يتحول عنصر معين إلى آخر. على سبيل المثال، اعتقد طاليس أن الماء يمكن أن يتحول إلى حالات مادية أخرى (صلبة أو غازية)، بينما رأى أناكسيمينس أن الهواء يمكن أن يتحول إلى مواد مختلفة من خلال تكاثفه أو تخلخله.

تأثير المدرسة الملطية في الفلسفة اللاحقة

أفكار المدرسة الملطية أثرت بشكل كبير على تطور الفلسفة الغربية. كانت هذه المدرسة نقطة الانطلاق للفكر الفلسفي الطبيعي، وأثرت على فلاسفة كبار لاحقين مثل هيراقليطس وبارمنيدس وأفلاطون وأرسطو. كما ساهمت المدرسة في تطوير مفهوم العقلانية وتأسيس أسس التفكير العلمي.

على الرغم من أن المدرسة الملطية لم تكن قائمة على التجريب العلمي الحديث كما نعرفه اليوم، إلا أنها كانت تمهد الطريق لتطور العلوم الطبيعية من خلال الاعتماد على الملاحظة والتفكير المنطقي. أسسها هذه المدرسة ساهمت بشكل مباشر في ظهور الفلسفة الطبيعية والعلوم التي تعتمد على القوانين الطبيعية والفيزياء.

أهم الفلاسفة في المدرسة الملطية

  • طاليس (Thales of Miletus)

يُعتبر طاليس (624-546 ق.م) مؤسس المدرسة الملطية وأحد أول الفلاسفة الذين حاولوا تفسير الكون بناءً على مبدأ مادي واحد. اعتقد طاليس أن الماء هو العنصر الأساسي الذي يتكون منه كل شيء. واستند في ذلك إلى ملاحظاته التي أظهرت أن الماء يمكن أن يتحول إلى حالات مادية مختلفة، مثل الصلب والسائل والغاز.

هو أحد الحكماء السبعة انفرد بالعناية بالعلم، جال أنحاء الشرق وتبحر في العلوم، ومما يذكر عنه أنه عمل كمهندس حربي في خدمة قارون (آخر ملوك ليديا في آسيا الصغرى) .

تُعد أفكار طاليس خطوة جريئة في تاريخ الفكر البشري، إذ أنه استبدل التفسيرات الأسطورية بتفسيرات عقلانية. كما كان لطاليس إسهامات في مجالات أخرى مثل الرياضيات والفلك. يُنسب إليه التنبؤ بكسوف الشمس الذي حدث في عام 585 ق.م، مما يدل على تطوره العلمي والرياضي.

كان يعتمد على الملاحظة والتجربة في الاستنتاج، لا على التفسيرات الخيالية والاسطورية، فمثلًا أستنتج ذات مرة، أن ضروفًا معينة هي التي تساهم في زيادة الانتاج، وليس الاستعانة في الالهة, وقيل إنه في أحد المرات توقع محصولًا ذو كميات كبيرة من الزيتون، فأشترى جميع عصارات الزيتون في المدينة، وتحكم بعد ذلك في بيعها، فجنى نتيجة لذلك أرباحًا كبيرة .

  • أناكسيمندر (Anaximander)

أناكسيمندر (610-546 ق.م)، تلميذ طاليس، اتخذ مسارًا مختلفًا عن معلمه. رفض فكرة أن الماء هو الأصل الأساسي، واقترح بدلاً من ذلك وجود عنصر غير محدود يُسمى الأبيرون (Apeiron) أو "اللامحدود". رأى أناكسيمندر أن هذا العنصر اللامحدود هو الذي ينشأ منه كل شيء، وهو الذي يحتوي الكون ويسيطر على تحولاته.

كان أناكسيمندر أيضًا رائدًا في مجال الجغرافيا والفلك. يُعتقد أنه أول من رسم خريطة للعالم المعروف في زمانه، وقدم نظريات حول شكل الأرض التي اعتقد أنها أسطوانية الشكل.

  • أناكسيمينس (Anaximenes)

تلميذ أناكسيمندر، أناكسيمينس (585-525 ق.م)، قدم تفسيرًا مختلفًا لأصل الكون. اقترح أن الهواء هو العنصر الأساسي الذي تتكون منه كل الأشياء. واعتقد أن جميع المواد تنشأ عن تكاثف الهواء أو تخلخله، وبالتالي يمكن أن يتحول الهواء إلى مواد صلبة أو سائلة أو غازية.

كان أناكسيمينس يؤمن بأن التغيرات في الكون تحدث نتيجة لتغير كثافة الهواء، وهي فكرة متقدمة في تلك الفترة. اعتبر أن الهواء هو العنصر الأكثر ملاءمة لشرح تنوع المواد في الطبيعة.

صورة توضح شرحًا عن فلاسفة مدرسة ملطية، طاليس،أناكسيمندر، أناكسيمينس.
فلاسفة المدرسة الملطية
يُعرف هذا الاتجاه في التفكير بـ "النظرية الواحدية"، والتي تهدف إلى تفسير الكون بأكمله من خلال عنصر أو مبدأ واحد. الواحدية ليست مجرد تفسير مادي للكون، بل تعكس رغبة فلسفية في إيجاد الوحدة والتجانس وراء التنوع الظاهري للعالم.

الخاتمة : تمثل المدرسة الملطية نقطة تحول كبيرة في تاريخ الفلسفة، إذ كانت البداية الحقيقية للفكر الطبيعي والعقلاني. عبر أفكار فلاسفتها، تم التخلي عن التفسيرات الأسطورية واستبدالها بمحاولات منطقية لفهم أصل الكون والمادة. سواء عبر الماء، أو الهواء، أو الأبيرون، أسس فلاسفة المدرسة الملطية لأفكار أساسية ساهمت في تطور الفلسفة والعلوم على مدى العصور.

google-playkhamsatmostaqltradent