حياة رينيه ديكارت
ولد رينيه ديكارت في تورين Touraine، وكان أهله من ذوي الغنى واليسار، ولما شب وترعرع أدخله ذووه مدرسة اليسوعيين في الافليش La Fleche التي كان أسها هنري الرابع قبل ذلك بعهد قريب، ولكنه لم يلبث أن غادرها كارهاً ناقماً، وكأنه لم يفد من ذلك المعهد إلا ازدراء لما كان شائعاً حينئذ من نظم فلسفية .
فلقد عجز الفلاسفة عن حل المسائل التي أخذوا أنفسهم محلها، واختلفوا فيما بينهم اختلافاً بلغ من الحدة أنك لا تكاد ترى بينهم رجلين اثنين على اتفاق في الرأي، ولقد حمله ذلك العجز وهذا الاختلاف ألا يروي ظمأه من غدرانهم .
يقول ديكارت: لم تكد تسمح لي سني بالإفلات من رقابة معلمي، حتى هجرت دراسة الآداب، وأزمعت ألا أنشد من العلم إلا معرفة نفسي، أو الإلمام بسفر الكون العظيم، فأنفقت ما بقي من عهد الشباب في الارتحال أزور الملوك في قصورهم .
وانخرط في سلك الجيوش وأبادل الحديث رجالاً من ذوي المناصب المتفاوتة والطبقات المتباينة، وأجمع من التجربة ألواناً شتى؛ ولقد كنت أغوص بفكري فيما أصادف من تجارب لعلي أفيد علماً جديداً .
هكذا لبث ديكارت يجول في البلاد ولا يستقر في مكان، فيلتحق بخدمة الجيش مرة، ويدرس الرياضة طوراً، ويحاور رجال العلم النابهين تارة حتى بلغ من عمره الثالثة والثلاثين، فألقى عصا تسياره في هولندة، وكان له من الثروة الموروثة عن أبيه ما يهيئ له أسباب العيش .
ولبث في هولندة عشرين سنة، اعتزل خلالها الناس وأخفى عنهم محل إقامته حتى لا
يزعجه في وحدته الهادئة أحد من مئات المعجبين به الذين كانوا يودون زيارته
منكل صوب .
وفي سنة ١٦٤٩ أرسلت في طلبهِ الملكة كرستينا، ملكة السويد (ابنة جوستاف أدولف) فلبي ديكارت دعوتها، ولم تكد تصل به السفينة إلى أرض السويد، حتى أرسلت الملكة إلى ربانها تستنبئه كيف كانت حالة الفيلسوف في طريقه إلى بلادها .
فأجاب الرجل: لست أحسبه يا سيدتي إنساناً من البشر، فإن من جئت به إلى جلالتك اليوم لأقرب إلى مرتبة الآلهة، إنه زودني من العلم في ثلاثة أسابيع في شؤون الملاحة والرياح أكثر مما تعلمت في ستين سنة أنفقتها في البحار .
وشاء الله أن تكون زيارة الفيلسوف لملكة السويد سبباً في موته، فقد كانت كرستينا - وقد عرفها التاريخ بالنشاط الجم والحيوية المتوثبة تستيقظ في الصباح المبكر، وكانت تأبى إلا أن يكون درس الفلسفة في تلك الساعة المبكرة، فلاقى ديكارت من هذا الأمر المتعسف ما لاقى من مرض وعناء .
إذ كانت عادته أن يستيقظ مع الضحى، ويظهر أنه قد كانت بنيته لا تقوى على برد الصباح القارس الذي كان يقاسيه في طريقه إلى القصر، فأزمع مغادرة السويد، ولكن الملكة الحفت في بقائه، فأصابه برد الشتاء بعلة في رئتيه أودت بحياته سنة ١٦٥٠ في اليوم الحادي عشر من فبراير, وكانت سنه قد بلغت الرابعة والخمسين .
أما أشهر مؤلفاته فهو كتاب العالم Le monde ، لم يكد يفرغ من كتابته حتى جاءه نبأ اتهام البابا لجاليليو لنظريته الفلكية، وكان كتاب ديكارت قائماً على أساسها، فذعر وهم بتمزيقه؛ ولكنه ضن به فأبقاه على أن يظل من غير نشر .
وفي سنة ١٦٣٨ نشر مقالات فلسفية, وقد ألحق بهذا الكتاب ثلاث رسائل تطبيقاً على ما جاء به من نظريات. وعلى الرغم من أن ديكارت قد أصدر هذا الكتاب وملحقاته الثلاثة غفلاً من اسمه، إلا أن أحداً في أوروبا لم يرتب في أن مؤلفه هو ديكارت .
وفي سنة ١٦٤١ أصدر مؤلفه تأملات في الفلسفة الأولى، كتبه باللاتينية، وهو أهم كتبه كلها، وقد تداوله كثير من العلماء قبل طبعه وأبدوا بعض اعتراضات عليه، فنشرها ونشر رده عليها . مع الكتاب نفسه، ثم أخرج بعد ذلك كتاب المبادئ الفلسفية كتبه باللاتينية أيضاً، وله كتب أخرى غير ما ذكرنا .
فلسفة ديكارت
رينيه ديكارت أحدث أهم الفلاسفة المؤثرين في الحداثة الغربية, أحدث تغير هائل ومدوي في تاريخ الفكر البشري, حتى لقب بأبو الفلسفة الحديثة, فلسفته كانت الفارق بين الفلسفة القديمة والفلسفة الحديثة, مقولته الشهيرة كانت أنا أفكر أنا موجود, وسنتناول فلسفتهِ بالتفصيل وفق النقاط التالية .
- إثبات وجود الذات
- أثبات وجود الله
- أثبات وجود الكون
- ثنائية الوجود
- الطبيعة المادية (الفيزيقيا)
- فلسفة العقل
- علم الانسان
إثبات وجود الذات عند ديكارت
يقول ديكارت إننا نلاحظ كيف يختلف الناس في أفكارهم وآرائهم، وكيف تخدعنا الحواس في كثير من الأحيان، فيبعث الشيء الواحد شتى الصور في الظروف المختلفة، مما يتعذر معه معرفة أي هذه الصور الذهنية صحيح مطابق للواقع ، وأيها خطأ وباطل .
فإذا كان العقل البشري بحكم تكوينه معرضاً للخطأ. وإذا كانت الحواس بطبيعة تركيبها خادعة لا تؤتمن فيما تنقله إلينا من علم. فليس لنا بد من الشك في أحكام العقل وفي الآثار الحسية جميعاً. لا نستثني من هذه أو تلك شيئاً حتى ما يبدو منها بديهيا لا يحتمل الريب ....
فنحن نعلم فيما نعلم أن هنالك عالماً مليئاً بأنواع المادة، فثمت سماء وماء وأشجار وأحجار وصنوف من الحيوان والنبات. ولكن أليست هي الحواس التي أنبأتنا بوجود هذه الطبيعة بكل ما فيها؟ فلنشك في وجودها إذن لأن الحواس غاشة خادعة .
ونحن نعلم فيما نعلم أن ثمت إلها يدير الكون ويدبره، وقد عرفنا وجود الله بوساطة العقل، ولكن العقل كثيراً ما يؤدي بنا إلى الخطأ والزلل، وإذن فلنشك في وجود الله، وما دمنا قد شككنا في وجود الطبيعة وفي وجود الله، فقد أنهدم علمنا بأجمعه وانمحى، لأنك لو حللت معلوماتك كلها لوجدتها مستمدة من هذه المصادر وتدور حولها .
ولكني مهما شككت وقضيت على كل شيء مما أعلم، فستبقى لي حقيقة واحدة تبقى أمام الشك الجارف وستظل ثابتة لا تميل أمام عاصفة الإنكار التي اكتسحت كل شيء، بل إنها ستزداد يقيناً كلما أمعنت في الشك والإنكار؛ وتلك الحقيقة هي أن هناك ذاتاً تشك !
فإن من الشك نفسه تتولد حقيقة لا سبيل إلى الطعن في ثبوتها ويقينها، هي وجود الشخص الذي يشك، فَلْأِتصور ما شئت أنني مخدوع في وجود الأشياء الخارجية، ولأرفض ما شئت فكرة وجود الله، ولكني مضطر إلى التسليم بوجود نفسي، لأنني لكي أخطئ في هذا وانخدع في ذاك. يجب أولاً أن أكون موجوداً .
نعم إني مهما ألححت في الشك فلن أشك في أني أشك؛ ولما كان الشك ضرباً من ضروب التفكير؛ إذن فلست أستطيع الشك في أني أفكر، وبديهي أنني لو لم أكن موجوداً لما شككت أو فكرت، فما دمت أفكر فأنا موجود ....
وهكذا وضع ديكارت هذه القاعدة: (( أنا أفكر فأنا إذن موجود ))، واتخذها أساساً أقام عليه فلسفته بأسرها. فمن وجود نفسه أثبت وجود الله، ومن وجود الله أثبت وجود العالم الخارجي، كما سترى فيما بعد: ومما تجب ملاحظته أن ديكارت حين أثبت وجوده من تفكيره، لم يثبت إلا ذاته للفكرة فحسب .
أعني أنه لم يثبت وجود نفسه ولا ما يتصل بالجسم، لأنه استنتج من شكه وجود
ذاته الشاكة أي المفكرة، وفي ذلك قال ديكارت يعارض سانشيه Sanchez الذي
يقول: (( كلما فكرت ازددت شكاً )) بهذه العبارة: (( بل كلما شككت ازددت
تفكيراً فأزددت يقينا بوجودي )) .
هكذا بدأ ديكارت بالشك الهادم، ثم انتزع من غمار الأنقاض التي قوضتها معاول شكه يقيناً، إذ أثبت أن ذاته المفكرة موجودة، لا ريب في وجودها، ثم قرر بعد ذلك أن كل قضية تبلغ من الوضوح والتحديد ما بلغته قضية (( أنا موجود )) لا يجوز أن نرتاب في صدقها ويقينها .
فمثلاً لا ينبغي أن نشك في هذه القضية : إن الشيء لا يخرج من لاشيء، لأنها بديهية تفرض نفسها على العقل فرضاً، فهي لا تقل صحة ويقيناً عن وجود العقل نفسه .
فإذا سلمنا بأن الشيء لا يخرج من لا شيء؛ كان لزاماً علينا أن نسلم بأن النتيجة لا يمكن أن تجيء أكبر من مقدمتها، أعني أن المسبب يجب أن يكون أصغر من سببه أو على الأكثر مساوياً لسببه، لأن كل زيادة في المسبب معناها أنها نشأت من لا شيء، وهو مناف للقضية التي سلمنا بها .
إثبات وجود الله عند ديكارت
لقد سلمنا فيما سبق أن الشيء لا يخرج من العدم وأن النتيجة لا يمكن أن تكون أعم من سببها، ولكنك إذا استعرضت أفكارك صادفت بينها فكرة ممتازة هي فكرة الكائن اللانهائي، أعني أن في ذهنك صورة عن كائن لا نهاية له ولا حدود.
فمن أين جاءتك هذه الصورة؟ يستحيل أن تكون قد نبعت من نفسك لأنها أوسع منك،
فأنت على نقيضها كائن نهائي محدود؛ وبديهي - كما سبق القول - ألا تجيء الصورة
أشمل من أصلها، وألا يكون المسبب أكبر من سببه، لأنه محال أن يتفرع الشيء من
لا شيء. وإذن فلا يمكن أن ينشأ كائن لا نهائي مطلق من كائن نهائي محدود
.
إذن فمن أين جاءتك هذه الفكرة بعد أن أيقنت أنها لم تتفرع عن فطرتك؟ لا نحسبك متردداً في أن تذهب مع ديكارت فيما ذهب إليه من أن هذه الفكرة اللانهائية الكاملة لا يمكن أن تنبعث من الطبيعة البشرية الناقصة .
بل لابد لها من أصل يوازيها كمالاً وعظمة, لضرورة التكافؤ بين العلة والمعلول؛
ومن هنا كان حتماً علينا أن نسلم بوجود إله جامع لكل صفات الكمال، هو الذي خلق
في الإنسان هذه الفكرة وألهمه إياها؛ وإذن فالله موجود وليس في وجوده شك
.
إثبات وجود الكون عند ديكارت
لقد رأينا فيما سبق كيف أثبت ديكارت وجود ذاته، ثم رأينا كيف استنتج من وجود نفسه وجود الله - الله اللانهائي الذي لا تحده الحدود، والذي هو سبب : نفسه و خالق كل شيء؛ وذلك يتضمن أنه مطلق القوة، منزه عن النقص، متصف بكل ضروب الكمال، لأنه قادر على أن يخلع على نفسه الكمال، وبديهي أنه يريد الكمال ما دام قادراً على بلوغه .
وليس يعنينا من كمالاته الآن إلا صفة الصدق. وما دام الله صادقاً يستحيل عليه أن يكون سبباً في تضليل الإنسان وخداعه بأن يهبه عقلاً مضللاً يؤدي إلى الخطأ والزلل، فالصدق الإلهي كفيل لنا خير كفيل أن يكون العقل الذي وهبنا إياه أداة قويمة صالحة، وأن يكون كل ما يفهمه العقل فهماً جلياً واضحاً حقاً لا ريب فيه .
وإذن فقد بات يسيراً علينا أن نقيم الدليل على وجود العالم الخارجي؛ فقد كنا شككنا في وجوده لجواز أن تكون عقولنا خادعة تصور لنا الباطل حقاً. أما وقد أقمنا الدليل على وجود الله، وأثبتنا له جميع صفات الكمال ومن بينها الصدق، فيجب ألا يعترينا الشك في وجود الكائنات الخارجية، إذ لو كانت وهماً لترتب على ذلك أن يكون الله خادعاً لأنه هو الذي أمدنا بتلك العقول الخادعة .
بدأ ديكارت» بتكذيب عقله في كل ما يجيء به، وانتهى بتصديق عقله في كل ما يصل إليه، على شرط أن تكون الفكرة التي يصل إليها العقل جلية واضحة، وهنا هاجمه النقاد هجوماً عنيفاً، فقالوا إن النتيجة التي وصل إليها ديكارت معناها أنه يستحيل علينا الخطأ مادام العقل صادقاً في كل ما يقول.
فأجابهم ديكارت بأن الخطأ لا ينشأ من نقص في العقل، بل من محاولة الإنسان أن يبرهن على صحة ما لم يتضح له وضوحاً كافياً، وإذن فالإنسان مسئول عن خطئه، وغلطه ناشئ من خداع نفسه لنفسه.
كذلك وجه إليه النقاد بأنه يدةور في حلقة مفرغة فينتهي من حيث بدأ، لأنه قال بادئ بدء إن كل حقيقة تبلغ من اليقين مبلغ أنا موجود أي تعرف بالبداهة تكون صدقاً لا يجوز فيها الشك، وعلى هذا رتب وجود الله، ثم استنتج من وجود الله وكماله أن كل ما يراه العقل في وضوح البداهة يكون حقاً، وأنت ترى من ذلك أن المقدمة التي استنتج منها وجود الله هي بعينها النتيجة التي استخرجها من وجود الله .
وعن ذلك أجاب ديكارت بأن هنالك فرقاً في نوعي التفكير في كلتا الحالين، فقد
كان العقل في الخطوة الأولى يعتمد على قضية بديهية بداهة مباشرة تفرض نفسها من
غير تفكير فيها، وأما في الخطوة الأخيرة فإن العقل يعتمد في استنتاجه على
التدليل، إذ أمكنه أن يبرهن على السبب الذي من أجله صار العقل أساساً يُركن
إليه.
ثنائية الوجود عند رينيه ديكارت
لقد انتهى بنا ديكارت إلى إثبات وجود الكون، ولكن مم يتألف هذا الكون؟ أهو عنصر واحد على الرغم من تعدد ظواهره وتباين ما فيه من أشياء؟ أم أن فيه من العناصر الأساسية آلافا عدة؟ يجيب ديكارت» إن كل ما نرى في الكون يرجع إلى عنصرين، فهو إما مادي صفته الأساسية ملء حيز من المكان، وإما عقلي صفته الأساسية الشعور والإدراك .
وهكذا ينحل الوجود في رأي ديكارت إلى عنصرين أساسيين، هما المادة والعقل، أو إن شئت فقل هما الجسم والروح، أما الأول فصفته المميزة له هي الامتداد وأما الثاني فصفته الجوهرية هي الفكر. ومعنى ذلك أن كل ما تصادف في تجاربك من أشياء مادية مكون من عنصر بعينه مهما اختلف شكله ومظهره .
فجسم الإنسان والزهرة والماء والهواء والصخر وما شئت من أجسام كلها متألف من عنصر معين لا يختلف في هذا عنه في ذاك، وكل ما في الكون من عقول، (أو أرواح) متشابه أيضاً، أعني أنها جميعا عنصر واحد انبث هنا وهناك ...
هذا وإن كل الأجسام تتصف بصفة واحدة مشتركة بينها جميعا هي الامتداد، فإن اختلف بعضها عن بعض فإنما يختلف في الأعراض الزائلة، كالشكل والحجم والوضع والحركة، وكلها كما تلاحظ أعراض للصفة الرئيسية - صفة المكانية أو الامتداد .
وكذلك كل العقول الفردية تتفق في الصفة الجوهرية وهي الشعور، فإن اختلفت وتباينت فما ذاك إلا في أغراض هذه الصفة الأساسية المشتركة، كاختلافها في الأفكار والأحكام والأعمال الإرادية .
وهذان العنصران - المادة والعقل - مختلفان أشد ما يكون الاختلاف، فيستحيل أن تتصف الأجسام بصفة الفكر، كما يستحيل أن يتصف العقل بصفة الامتداد؛ وهكذا شطر ديكارت الوجود إلى شطرين لا تجد الوحدة إليهما من سبيل ، فهو اثنيني متطرف. وها نحن أولاء تتناول كل شطر منهما بالبحث .
الطبيعة المادية الفيزيقيا
خصص ديكارت الجزء الأكبر من مجهوده للفيزيقا, حتى إنه كثيراً ما أطلق عليها في رسائله اسم «فلسفتي»، والغرض من دراسة الفيزيقا عند دیکارت، أن تعلل كل ما يصادفه الفكر من ظواهر الطبيعة .
ولا يدخل في حسابها ما تأتينا به الحواس على أنه صفات للأشياء الخارجية، لأن
تلك الصفات الحسية (التي تأتي عن طريق الحواس) لا تدل إلا على حالات الشخص
الذي يحسها، وليس بينها وبين الأجسام التي تبعث فينا الإحساس من أوجه الشبه
إلا بمقدار ما بين الألفاظ وما تثيره في أذهاننا من معان .
كذلك يجب على الباحث في ظواهر الطبيعة ألا يأخذ بالصفات التي لا تتعلق بالجسم في ذاته، ولكنه يكتسبها من علاقته بشيء آخر، مثال ذلك العدد والزمان وغيرهما، مما ليس إلا مجرد علاقات بين الأشياء .
وأول ما يلفت النظر عند التفكير في طبيعة الأجسام الحقيقية هو امتدادها طولاً وعرضاً وسمكاً، لأن الامتداد - كما سبق القول هو الخاصية التي تتصف بها الأجسام المادية، وكل ما عداه من صفات فأعراض لتلك الصفة الأساسية قد تلحق بالجسم وقد تزول وبما أن الامتداد معناه المكان إذن تكون لفظتا المكان والمادة مترادفتين, إذ المادة والمكان منطبق أحدهما على الآخر .
وفي قولنا مكان خال تناقض، لأن المكان الذي يخلو من المادة ليس له وجود، بل إن المكان هو المادة كما قلنا .
وقد انتقد كثيرون هذا الرأي القائل بأن الجسم ليس معناه إلا المكان الذي
يشغله، فقالوا إنه لو صح هذا لاستحال حدوث التكاثف والتخلخل في الأجسام.
فأجابهم ديكارت بأن الأسفنجة حين تمتلئ بالماء لا يزيد امتدادها عنها وهي
جافة. فالتخلخل والتكاثف لا يعنيان إلا مثل هذه الظاهرة التي تحدث في
الأسفنجةعند امتصاصها الماء أو جفافها .
ليس في الطبيعة المادية إلا أجسام تتصف كلها بصفة مشتركة: هي الامتداد، وكل اختلاف بين جسم و آخر هو في حقيقة أمره اختلاف في الحركة التي بين أجزائهما، فالله حين خلق العالم المادي لم يزد على أن أوجد أجساماً ممتدة، ثم أنشأ فيها حركة؛ ولما كان الله الذي أنشأ الحركة في الأجسام غير قابل للتغير، وجب أن تكون النتيجة الناشئة عنه غير قابلة للتغير أيض .
ولذا كان أول قوانين الطبيعة هو هذا: إن مجموع الحركة لا يزيد ولاينقص ومن هذا القانون الأساسي تفرعت قوانين ثانوية هي :
- إن كل جسم يحافظ على حالته التي هو فيها.
- إن الجسم المتحرك يحافظ على اتجاهه الذي يتحرك فيه، وهو يتحرك في خط مستقيم ما لم تؤثر فيه عوامل خارجية.
- إذا اصطدم جسم متحرك بجسم آخر تغير اتجاه حركته.
ويقدم لنا ديكارت في كتابه (( العالم Monde )), صورة لخلق الكون: فقد بدأ بالله عند خلقه للكون بتقسيم المادة إلى أجزاء لا حصر لعددها، ذات حجوم مختلفة وأشكال متباينة، ثم بث في هذه الأجزاء المادية مقداراً من الحركة - لم يزد عليه بعد ذلك شيئاً ولم ينقص منه شيئاً .
ثم دفع الأجسام في اتجاهات مختلفة أشد الاختلاف، وتركها تأخذ مجراها الآلي. فمن المحتم أن تتصادم هذه الأجسام لما بين مسالكها من تعارض وخلاف، فتجمع طائفة منها وتكون كتلة كبيرة متماسكة .
بينما تجد مجموعة أخرى من تلك الأجسام قد براها احتكاكها بالأجسام الأخرى حتى أصبحت ذرات بالغة الصغر. وطائفة ثالثة منها انقلبت هياء ناعماً بلغ حداً من الدقة لا نهاية له، وهذا ما نسميه بالأثير .
وأجزاء هذا الأثير متصل بعضها ببعض أوثق اتصال بحيث أصبح من المستحيل تفرقها وانفكاكها. ومن هذا الأثير يتكون عنصر النار، ويطلق عليه ديكارت» عادة اسم العنصر الأول، ومنه تكونت في رأيه الشمس والنجوم .
أما النوع الأول من المادة الذي سبق ذكره,والذي يتكون من كتل ضخمة بتجمع
الأجزاء بعضها إلى بعض، فيطلق عليه ديكارت اسم العنصر الثالث، أو عنصر
التراب .
والأجسام التي تكونت من هذا العنصر تكون إما سائلة أو صلبة تبعاً لسهولة
تحرك ذراتها أو صعوبته؛ وبين عنصر النار وعنصر التراب يجيء عنصر آخر يطلق
عليه ديكارت اسم العنصر الثاني، وهو الذي يتكون من ذرات صغيرة، وهو عنصر
الهواء الذي منه تتكون السماء .
وكل هذه الأجسام متحركة؛ فمن حركة العنصر الأول - الأثير - تنشأ الحرارة، ومن حركة العنصر الثاني - الهواء - ينشأ الضوء واللون .
هذا ولما كانت الأجسام تتحرك في مكان كله مليء بالمادة، فإنه لا يكاد
ينتقل جسم من موضعه حتى تندفع الأجسام المحيطة به لكي تملأ مكانه؛ ومن هذه
الحركة السريعة تنشأ حركة دائرية في الأجسام المندفعة كما يحدث في دوامة
الماء؛ وبهذا يعلل دوران الكوكب حول الشمس .
ولا يقصر ديكارت هذه الآلية على الأجسام المادية وحدها، بل إنه يطبقها كذلك على الكائنات العضوية، إذ يعتقد أنها مجرد آلات تعمل عملاً آلياً محضاً، فإذا وقف عملها كان ما تسميه بالموت .
فلسفة العقل عند ديكارت
طلق ديكارت على مبحث العقل من فلسفته اسم «الميتافيزيقا»، كما تتميز الأجسام المادية بالامتداد، فإن العقل يتصف بالفكر، وهذا صحيح بالنسبة لكل عقل بما في ذلك عقل الله، لأن عقل الله لا يختلف عن عقل الإنسان المحدود إلا كما يختلف العدد اللانهائي عن اثنين أو ثلاثة .
فصور لنفسك عقلاً بشرياً قد خلص من قيوده وحدوده يكن لك من ذلك فكرة واضحة عن الله، والعكس صحيح، أعني إذا تخيلت فكرة الله وقد انحصرت في حدود، كان لك من ذلك صورة للنفس الإنسانية، ولهذا السبب نفسه نستطيع أن نستنتج وجود الله من وجود عقولنا، ولكنا لا نستطيع أن نستنتج وجوده من وجود أجسامنا, بل ولا من العالم الطبيعي بأسره .
كما أن الجسم يستحيل وجوده وإدراكه بغير امتداد، لأن الامتداد خاصته المميزة، كذلك العقل يستحيل وجوده بغير تفكير, ويقصد بتفكير العقل مجرد شعوره بوجوده نفسه، فالعقل دائم التفكير - أي الوعي كما أن الضوء دائم الإضاءة، والحرارة دائمة السخونة؛ ولا يتردد دیكارت في اعتقاده بأن الطفل يشعر بنفسه وهو في أحشاء أمه .
ويمكن تقسيم أفكار الإنسان من حيث وضوحها وغموضها إلى كاملة وناقصة ( أي أن الفكرة الواضحة هي التي اكتملت من جميع نواحيها، وأما الغامضة فهي التي ينقصها بعض أجزائها ) ومن حيث مبعثها إلى أفكار كوناها بأنفسنا وأخرى استعرناها من الخارج وثالثة فطرية جبلت فينا منذ الولادة .
ومن حيث دلالتها إلى أعمال إدراكية منفعلة (قابلة) وأعمال إرادية (فاعلة) ومعنى هذا أن هنالك بعض الأفكار تقتصر على مجرد الإدراك وبعضها الآخر يتعدى دائرة الإدراك إلى دائرة العمل، ولا يمكن أن يتم عمل إرادي بغير عملية الإدراك، أعني أننا ندرك الفكرة وتستقر في أذهاننا مدة تقصر أو تطول، ثم تقوم بعد ذلك بتنفيذها .
ولكن هناك عمليات إدراكية محضة لا تبدو فيها الإرادة أي لا تقوم بإخراجها عملاً من الأعمال ومعنى ذلك أن العمل الإرادي لابد أن يسبقه إدراك عقلي ولا عكس، أي قد تكون هناك إدراكات عقلية دون أن يصحبها عمل إرادي .
ولا يجوز للإنسان أن يحكم على تلك الإدراكات العقلية المحضة التي تخلو من أعمال الإرادة بالخطأ أو الصواب، لأن مجرد هذا الحكم يتضمن إقراراً أو إنكاراً لها، والإقرار والإنكار من أعمال الإرادة، فكأنك بهذا قد تدخلت بإرادتك في غير ميدانها .
ويعتقد ديكارت أن وقوع الإنسان في الخطأ - مع أن العقل أداة من عند الله ومفروض فيه الدقة والصدق - ناشئ من أنه لا يقف عند ما رسمه الله له من حدود، أعني أنه يقحم إرادته فيما لا يجوز أن تتدخل فيه الإرادة؛ وإن الإنسان ليجنب نفسه الخطأ لو أنه ضبط إرادته ومنعها عن التدخل في عمليات الإدراك العقلية بما تصدره من أحكام على تلك الإدراكات التي يجب أن تختفي فيها الإرادة اختفاء تاماً .
فليس الخطأ في أن يدرك الإنسان ما شاء من صور ذهنية، إنما الخطأ كل الخطأ في أن تتناول تلك الصور الذهنية بالحكم فنؤكد أن هذه الصورة العقلية موجودة وجوداً حقيقياً في العالم الخارجي، وأن تلك وهم من اختلاق الذهن وهكذا .
فلو فرضنا أنك تصورت في ذهنك فكرة وهمية ليس لها نصيب من الصدق، فليس يسمى هذا خطأ، ولكن يبدأ الخطأ بأن تؤكد أن هذا الوهم الذي في ذهنك له ما يطابقه في الواقع نعم لو كان الإنسان لا يتصدى بالإثبات إلا لما يعرفه معرفة جلية دقيقة واضحة لعصم نفسه من الخطأ .
يستحيل أن تقع تبعة أخطائنا على الله بحجة أنه أمدنا بعقول محدودة قاصرة، وأنه وهبنا في الوقت نفسه إرادة حرة تستطيع أن تتعدى حدودها المفروضة؛ فتتناول بالتسليم والرضى ما يكون علمنا عنه ناقصاً مهوشاً بسبب عجز العقل وقصوره. إنما التبعة في ذك كله واقعة علينا نحن نطلق العنان للإرادة، فتنطلق إلى غير ميدانها.
لقد ذكرنا فيما سبق أن الأفكار من حيث أصلها ومبعثها ثلاثة أقسام: أفكار كوناها بأنفسنا، وأخرى اكتسبناها من العالم الخارجي، وثالثة فطرية فينا .
فإذا أردنا أن تجنب أنفسنا الخطأ، وجب فيما يتعلق بالنوع الأول أن نحذر غاية الحذر أثناء تكوين الفكرة، فلا نحذف منها شيئاً مما يكون جانباً من حقيقتها، بل لابد أن نلم بأطراف الفكرة كلها لكي تكون كاملة، لأننا إن كوناها ناقصة ثم سلمنا بها على نقصها وقعنا في الخطأ .
ويضرب ديكارت مثلاً بفكرة الجبل، فيقول إنه لكي تتصور الجبل فلابد أن تقرنه بالوادي أي بالمنخفض الأرضي الذي نشأ تبعاً لنشأة ذلك الجبل، وإلا كانت فكرتك ناقصة تبعث على الخطأ .
وأما فيما يتعلق بالأفكار المكتسبة من العالم الخارجي فيجوز لنا أن نؤكد أن أفكارنا تقابل أشياء واقعة في العالم الخارجي، ولكنا لا نستطيع أن نقطع في يقين أن الشيء الخارجي له نفس الصفات التي تمثلها لنا فكرتنا عنه .
وأما النوع الثالث من الأفكار، وهي الأفكار الفطرية، فلا يخشى منها ضرر، لأنها لا تؤدي إلى الخطأ إطلاقاً، فهي متصلة بطبيعة العقل اتصالاً وثيقاً بحيث يستحيل فصلها عنه، فهي جزء ضروري في تكوينه، أو إن شئت فقل هي القوة الفطرية التي بها يفكر العقل .
فلا يمكن أن تكون الأفكار الفطرية خطأ، ومن هنا كانت فكرتنا عن وجود أنفسنا وفكرتنا عن وجود الله صحيحتين لأنهما فطريتان، ولأنهما واضحتان جليتان تامتان أشد ما يكون الوضوح والجلاء والتمام .
هذا و ديكارت» يقول بحرية إرادة الإنسان، ولكنه في الوقت نفسه يعتبر الإباحية أي التخلص من كل القيود أخس مراتب الإرادة الحرة .
وهو يقول إن من يكون علمه عن الله وعن الحقيقة واضحاً محدداً، فإنه لن يتردد بتاتاً في اختيار الحق، نعم هو حر فيما يختار، ولكنه لابد أن يختار الحق ما دام يعلمه علماً صحيحاً، وأن الحرية العليا والكمال الأسمى لينحصران في العصمة من الخطأ بواسطة المعرفة الصحيحة، وهكذا يظهر المذهب السقراطي مرة جديدة في تاريخ الأخلاق .
الخاتمة : نعم هكذا بدأ ديكارت بالشك الهادم، ثم انتزع من غمار الأنقاض التي قوضتها معاول شكه يقيناً، إذ أثبت أن ذاته المفكرة موجودة، لا ريب في وجودها، ثم قرر بعد ذلك أن كل قضية تبلغ من الوضوح والتحديد ما بلغته قضية (( أنا موجود )) لا يجوز أن نرتاب في صدقها ويقينها .