مقدمة عن المنطق
ذكرنا في مقال مباحث الفلسفة أن للفلسفة ثلاث مباحث رئيسية كبرى، هي مبحث الوجود والمعرفة، والمبحث الثالث مبحث القيم. ومبحث القيم ينقسم بدوره إلى ثلاث موضوعات، هي المنطق والأخلاق وأخيرًا الجمال.
معنى المنطق |
إذن، المنطق هو أحد فروع مباحث الفلسفة، ويدرس المنطق الحق؛ لذلك يوصف المنطق بأنه معيار الحق. سنحاول في هذا المقال تبسيط معنى المنطق للمبتدئين بطريقة بسيطة لفهمه.
حتى نبسط فهم المنطق، دعني أسالك سؤالًا: كم لغة تستطيع التكلم بها؟ على الأقل سيكون جوابك هو لغة واحدة، هذا إن لم تكن تستطيع التكلم بأكثر من لغة. والسؤال الآخر: هل تعرف قواعد استعمال هذه اللغة أو اللغات التي تتكلم بها؟
مثلما تعرف، هناك فرق بين استعمال اللغة وقواعدها. صحيح أن الكل يستخدم اللغة، ولكن ليس الجميع يعرف كيفية استخدام قواعدها. فلكل لغة قواعد لاستخدامها بالشكل الصحيح. فالنحو، مثلًا، هو العلم الذي نعرف من خلاله ضوابط استخدام تراكيب اللغة العربية.
هذا يعني أن استخدام الشيء لا يعني بالضرورة أنك عارف بقواعد استخدامه. فها نحن نتكلم لغة، وبعضنا يتكلم أكثر من لغة، ولكن ربما لا نعرف القواعد الكاملة للغة واحدة على الأقل.
بالتالي، فإن قواعد استخدام الشيء تعصمنا من الوقوع في الخطأ. فمعرفة قواعد اللغة العربية تجنبنا الوقوع في الخطأ في المخاطبات الرسمية والرسائل، والكتابة لفنون الأدب المختلفة، ومختلف مجالات الفكر.
الإنسان كائن مفكر، وقيمته الحقيقية تكمن في إمكانيته في القدرة على التفكير والاستنتاج ثم الحكم. هذه القوى التي يملكها الإنسان هي ما تسمى بالعقل.
أي أن أداة التفكير في الإنسان هي العقل، والتفكير ميزة جوهرية للإنسان. والنتيجة الطبيعية لعملية التفكير هي النتاج الفكري، وقد يكون هذا النتاج الفكري صحيحًا أو خاطئًا، وهذا مرتبط بصحة أو خطأ عملية التفكير نفسها.
وهذه القوة التي يملكها الإنسان عبارة عن نشاط ذهني، يوجهه الإنسان تجاه المواضيع التي تثيره بغية الوصول إلى حقائقها.
ولكن هذا السلوك أو النشاط الذهني قد يكون موجهًا بشكل صحيح، فتكون النتائج أو الحقائق التي يتوصل إليها الإنسان صحيحة. وقد يكون خاطئًا، فتكون نتائجه بعيدة كل البعد عن إصابة كبد الحقيقة.
فالإنسان حينما يمارس التفكير قد يفعل ذلك بشكل صحيح وقد يخطئ. فالإنسان معرض للخطأ والصواب في ذلك .
لنقِس المثال السابق، مثال استعمال اللغة وقواعدها على الفكر. جميعنا نفكر، ولكن هل جميعنا يعرف قواعد الفكر؟ نعم، قواعد الفكر. مثلما للغة قواعد تعصمنا من الوقوع في الخطأ، هناك قواعد للفكر تجنبنا من الوصول إلى نتائج خاطئة في عملية التفكير.
ولكي يكون النتاج الفكري للإنسان صحيحًا، يتوجب أن تكون عملية تفكيره قد تمت بالشكل الصحيح. ولكن السؤال هو: إذا كانت عملية التفكير معرضة للخطأ والصواب، فكيف نميز بين ما هو صحيح منها وما هو خاطئ؟
فالإنسان يحتاج إلى قواعد تنظم له عملية تفكيره وتجنبه الزلل والوقوع في الخطأ. فهل سألت نفسك يومًا ما هي قواعد الفكر، أو كيف أستطيع معرفة صحة أفكاري من خطأها؟ أو ما هو الميزان أو المعيار الذي أزن به أفكاري؟
إذا كان النحو هو العلم الذي يعني بوضع قواعد استخدام اللغة العربية، فإن المنطق هو العلم الذي يعتبر معيار الفكر. من خلال أدواته نزن أفكارنا فنعرف مدى قوتها وضعفها، ونميز ما كان صحيحًا منها أو باطلًا.
مثلما يفيد النحو في تجنبنا الوقوع في خطأ استعمال اللغة، فإن المنطق أو قواعد الفكر، التي تنطوي بمجموعها تحت مسمى "علم المنطق"، تجنبنا التفكير بطريقة خاطئة. لذلك يُصنَّف علم المنطق ضمن العلوم الآلية. فالعلوم نوعان:
- العلوم الآلية: وهي العلوم التي نتعلمها لا لذاتها، وليست هي الغاية من تعلمها، بل ندرسها ونتعلمها لتكون وسيلتنا التي نستعين بها لتحصيل علوم أخرى. فمثلًا، نحن ندرس ونتعلم النحو لا لذاته، بل لاستخدامه في تحصيل علوم أخرى، مثل فهم النصوص القرآنية.
- العلوم الاستقلالية: أما العلوم الاستقلالية، فهي العلوم التي ندرسها ونتعلمها لأننا نطلبها لذاتها.
هذا يعني أن علم المنطق هو من العلوم الآلية، لأنه العلم الذي يُطلب لا لذاته، بل لاستخدامه كوسيلة أو غاية لطلب علوم أخرى.
وهذا لا يعني التقليل من شأن علم المنطق، بل هو علم مهم وربما من أهم العلوم. فقد اعتبره الفارابي رئيس العلوم، بينما أطلق عليه ابن سينا لقب خادم العلوم. وبالتالي، هو رئيس القوم بما أن رئيس القوم هو خادمهم.
ما هو المنطق
هو عبارة عن قواعد فكرية، يؤدي اعتمادها إلى استنتاج نتائج عقلانية بالاعتماد على مقدمات تمثل معلومات معينة. أي أن المنطق يعلمنا كيف نقيم الحجج والأدلة المنطقية، وبالتالي نتعرف على الأفكار القوية من الضعيفة، ونميز بين الصحيح منها والخاطئ.
إن المنطق هو علم وموضوعه قواعد التفكير، التي يؤدي استخدامها إلى تجنب تفكيرنا من الوقوع في الخطأ.
غياب المنطق يؤدي إلى غياب إمكانية تمييز الأفكار الصحيحة من الخاطئة، وهذا يصعب علينا الوصول إلى الحقائق.
نشأة المنطق
اجتمع المؤرخون والفلاسفة تقريبًا على أن ظهور الفلسفة كان في بلاد اليونان في القرن السادس قبل الميلاد تقريبًا، حيث كان طاليس (624-546 ق.م) أول الفلاسفة. وقد مرت الفلسفة القديمة (الوعي الفلسفي اليوناني) بمراحل ثلاث.
نشط السفسطائيون في المرحلة الثانية، وأسسوا فلسفتهم على أساس أن الحقيقة نسبية ومتغيرة، وأنها خاضعة للتغير. يمثل رأيهم هذا عجز العقل والتقليل من شأنه، ورفضوا وجود حقيقة مطلقة، وإن وجدت لا يمكن إدراكها، وإن أمكن إدراكها لا يمكن نقلها للآخر.
امتلك السفسطائيون قدرة عالية على التلاعب بالألفاظ واستخدام المعاني لبلوغ مرامهم. والذي ساعدهم على امتلاك هذه القدرة هو وظائفهم، إذ كانوا يمتهنون مهنة المحاماة التي أساسها الجدل والخطابة والمغالطة آنذاك، فتفوقوا على غيرهم بذلك.
تسبب منهج السفسطائيين هذا وأسلوبهم في فوضى فكرية عارمة، فقد تنكروا للحقائق ورفضوا التسليم بالمطلق، حيث اعتمدوا الشك والجدل والمغالطة والخطابة والتزوير باستخدام الألفاظ وسحر المعاني. كل هذا أدى إلى فوضى فكرية آنذاك.
فما كانت ردود الفعل تجاه أسلوب السفسطائيين هذا إلا بقوة رفضهم للحقيقة. فأنبرى لحمل لواء الحقيقة جملة من الحكماء، كان أولهم سقراط (470 ق.م) الذي اعتمد أسلوب الحوار لتوليد الحقائق وفق السلوك الفكري المنطقي. حيث أوقف سقراط السفسطائيين عند حدهم، وهدم مزاعمهم وأجبرهم على الخضوع لقبول الحقائق والتسليم لها.
ثم تبع سقراط تلاميذه الذين ساروا على نهجه في صد حملات السفسطائيين الفكرية ضد الحقيقة. ومن أشهر تلاميذه أفلاطون وأرسطو، الذي كان له بالغ الأثر في علم المنطق، حتى لُقب بأبي المنطق الغربي.
صحيح أن هناك مناقشات سبقت أرسطو في علم المنطق من قبيل الحجج المنطقية وآلية تقييمها، ولكن يعتبر الفيلسوف الإغريقي أرسطو هو أول من وضع قواعد علم المنطق.
تاريخيًا، هناك العديد من الفلاسفة والعلماء الذين يعتبرون مطورين في علم المنطق، أمثال الفيلسوف الفرنسي الشهير بيتر أبيلار (1079-1142) ذائع الصيت في القرن الثاني عشر، وكذلك الراهب الإنجليزي والمدرسي وليم الأوكامي أحد عظماء فلاسفة القرون الوسطى. والفيلسوف والعالم الألماني غوتفريد فيلهلم لايبنتز، وجوتلوب فريجة الفيلسوف والعالم في مجالي المنطق والرياضيات، وغيرهم من الفلاسفة الآخرين الذين ساهمت محاولاتهم في تطوير علم المنطق.